كتب محمود الهواري:


11:57 ص


13/12/2025

في أعماق منتزه نيلسون ليكس الوطني بالجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا، تقع بحيرة صغيرة ذات لون أزرق مائل إلى البنفسجي، تحيط بها غابات ألبية شديدة الانحدار، وتتغذى بمياه جليدية قادمة من بحيرة كونستانس.

ورغم مساحة البحيرة المحدودة، تتمتع بأهمية استثنائية، سواء من الناحية البيئية أو الثقافية.

اكتشفت قبيلة الماوري “نغاتي آبا” البحيرة لأول مرة، وأطلقت عليها اسم Rotomairewhenua، أي “بحيرة الأراضي السلمية”، إذ اعتبرتها القبيلة موقعًا مقدسًا، حيث كانت تُستخدم في طقوس تنظيف عظام الموتى، اعتقادًا بأن ذلك يضمن للروح رحلة آمنة إلى موطن الأجداد الماوري في “هاوايكي”.

وخلال العقود الأخيرة، لفت اللون الفريد للبحيرة وهدوء المكان أنظار هواة المشي في الطبيعة، لكن الاكتشاف العلمي الأبرز لم يحدث إلا قبل نحو عشر سنوات، عندما توصل الباحثون إلى أن مياه البحيرة تتمتع بـ”نقاء بصري استثنائي”، يسمح بالرؤية إلى عمق يتراوح بين 70 و80 مترًا، وهو مستوى يضاهي نقاء المياه المقطرة، ما جعلها تُصنف على أنها “أنقى مياه عذبة مسجلة حتى الآن”.

هذا اللقب، إلى جانب انتشار صور البحيرة على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حوّل Rotomairewhenua إلى وجهة سياحية شهيرة خلال أشهر الصيف النيوزيلندي بين ديسمبر ومارس.

غير أن هذا الاهتمام المتزايد أثار مخاوف حماة البيئة وأفراد قبيلة نغاتي آبا، الذين يخشون أن تهدد الشهرة المتنامية نقاء البحيرة الفريد.

وتتمثل أبرز هذه المخاوف في انتشار طحالب مجهرية تُعرف باسم Lindavia، ويُطلق عليها شعبيًا «ثلج البحيرة» أو «بلغم البحيرة»، نظرًا للمادة المخاطية التي تنتجها وتطفو أسفل سطح الماء.

وتوجد هذه الطحالب بالفعل في بحيرات قريبة أسفل مجرى البحيرة، مثل Rotoiti وRotoroa وTennyson، مع خطر انتقالها إلى Rotomairewhenua عبر أحذية المتنزهين أو معداتهم.

ويؤكد فيل نوفيس، الباحث المتخصص في علم الطحالب بمعهد Landcare Research الحكومي، أن هذه الطحالب تُعد نوعًا غازيًا في نيوزيلندا، ويُرجح أنها وصلت من أمريكا الشمالية، ربما عبر معدات الصيد.

وتشير السجلات إلى رصدها لأول مرة مطلع الألفية، قبل أن تنتشر تدريجيًا في البحيرات التي يسهل وصول البشر إليها.

ويحذر نوفيس من أن مجرد قطعة صغيرة من هذه الطحالب قد تُحدث تغييرًا دائمًا في النظام البيئي للبحيرة، لسهولة انتقالها عبر قطرات الماء.

ورغم أنها غير سامة للبشر، فإنها تنتج خيوطًا لزجة قد تسد معدات الصيد ومرشحات القوارب، وفي حالة Rotomairewhenua، قد تحجب الصفاء البصري الاستثنائي الذي يميز مياهها.

من جهتها، تقول جن سكيلتون، عالمة البيئة ومستشارة منظمة Ngāti Apa ki te Rā Tō Trust، إن دخول هذا الكائن الدقيق إلى البحيرة قد تكون له «عواقب بعيدة المدى» على جودة المياه وصحة النظام البيئي، فضلًا عن كونه تهديدًا مباشرًا لقيمتها الثقافية والروحية لدى قبيلة نغاتي آبا.

ومنذ نشر الأبحاث العلمية حول نقاء البحيرة عام 2013، تضاعف عدد الزوار أكثر من مرتين، وفق بيانات وزارة الحفاظ على البيئة النيوزيلندية، التي تشير إلى أن معظم الزوار يصلون إلى البحيرة عبر مسارات تستغرق أيامًا، أو ضمن مسار Te Araroa الطويل الممتد عبر البلاد.

ورداً على ذلك، تعمل وزارة الحفاظ على البيئة بالتعاون مع قبيلة نغاتي آبا ومؤسسة Te Araroa Trust على تطبيق إجراءات للأمن البيولوجي، تشمل محطات لتنظيف الأحذية والمعدات، ولوحات إرشادية تحث الزوار على اتخاذ الاحتياطات اللازمة قبل الوصول إلى البحيرة.

كما يتم التأكيد على ضرورة عدم لمس المياه أو السباحة فيها أو غمر المعدات، ليس فقط للحد من مخاطر التلوث البيولوجي، ولكن أيضًا احترامًا لقدسية المكان، إذ تعتبر مياه Rotomairewhenua «تابو» أو مقدسة وفق المعتقدات الماورية.

وخلال فصل الصيف، يتواجد حراس في الموقع لتوعية الزوار بالمخاطر البيئية والأهمية الثقافية للبحيرة.

ورغم وجود مؤشرات على تحسن الالتزام بالإرشادات، إلا أن الدراسات تشير إلى فجوة بين وعي الزوار بالمخاطر وتطبيقهم العملي للإجراءات الوقائية.

وفي ظل صعوبة فرض قيود على أعداد الزوار باعتبار البحيرة جزءًا من منتزه وطني، تركز السلطات على تعزيز مفهوم «المسؤولية المشتركة»، وتشجيع الزوار على الاستمتاع بالطبيعة البكر دون الإضرار بها، حفاظًا على واحدة من أنقى بحيرات العالم للأجيال المقبلة.

شاركها.