عمل قليل وأجر كبير

لا شك أن من أصعب وأعقد العمليات التي يمكن أن يمر بها الشخص في حياته اليومية، هي عملية اتخاذ القرار الصائب غير العشوائي، القرار الذي يمكنه من حسم مسيرته المستقبلية، ويرجع هذا التعقيد في الأساس إلى العديد من التغيرات والظروف والمواقف والحالات والمشاعر النفسية الطارئة التي قد يتعرض إليها، والتي تستدعي منه الحزم وسرعة البديهة، وفي نفس الوقت عدم الخروج عن الثوابت والمبادئ التربوية والدينية والاجتماعية، لأننا إذا اتخاذنا أي قرار غير صائب وعشوائي قد يؤثر على مستقبلنا وبالتالي سياقتنا الى التهلكة لا قدر الله.
وحقيقة أخرى أنه من منا لم يمر بموقف من المواقف الصعبة والحرجة في حياته، تطلبت منه اتخاذ قرار سريع ومناسب وصحيح، برغم كل الترددات ومشاعر الخوف الباطنية التي تمتلكه نتيجة لهذا القرار، خاصة إذا كان يتعلق بحل يهدف الى تحقيق غاية معينة ومصيرية في حياته. كما أن اتخاذنا لأي قرار ليس بالأمر السهل والمضمون، وهذا راجع بالدرجة الأولى للعالم السريع والمتغير والإغراءات التي حولنا. فبرغم حرصنا جميعا على تدقيق اختياراتنا وقراراتنا الا أن فرص نجاحها قد تقل وهذا بسبب تضييقنا لمساحة فهم طبيعة اختيارنا للقرار الصائب والمصيري، مما يجعلنا نندب الحظ والظروف والمواقف وحتى الأشخاص التي حولنا، فمثلا اختيار التخصص ومجال الدراسة والوظيفة هو قرار وتغييرهما هو قرار مصيري واختيار الزواج هو قرار والطلاق هو قرار مصيري وارتكاب المعصية هو قرار والتوبة منها قرار مصيري، فلا فائدة أن نعمل طيلة شبابنا دون رغبة في ذلك العمل والوظيفة وعند مرحلة التقاعد نكون عاجزين بسبب أمراض مزمنة وخطيرة، ولا فائدة من العمل ستة أيام في الأسبوع لنصل الى يوم راحتنا ونستغله في النوم فقط. فهناك أعمال قليلة ولكن أجرها كبير إذا ما أحسنا اختيارها. لهذا فمن المنطقي أن نعي بدور استراتيجية اتخاذنا للقرار الصائب غير العشوائي وتأثيره على حياتنا.
وكعادة مقالاتي أحببت مشاركتكم حدث وقصة تاريخية استوقفتني لا ربما تكون عبرة وإجابة على هذا الدور والقرار الاستراتيجي وكذلك العديد من الأسئلة المحيرة التي يمكن أن نطرحها عند اتخاذنا لأي قرار مصيري، حيث يحكى أنه كان لدى الروم قائد اسمه جورج بن توذرا خرج من أجل حرب المسلمين وطلب مبارزة قائدهم خالد بن الوليد رضي الله عنه. وبينما الكل في الصفوف يكتم أنفاسه مترقبا تلاحم السيوف سارع جورج قبل انطلاق الحرب بالكلام قائلا (وهي عادة سلمية قديمة لدى القادة يتم من خلالها التحدث والتشاور قبل انطلاق الحرب) فقال يا خالد أصدقني القول هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاك اياه فأجابه خالد: لا إن الله عز وجل بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه، فكنت ممن كذبه وباعده وقاتله، ثم إن الله أخذ بقلبي فهداني فتبعته في دين الحق، فقال له جورج: وما نصيحتك لي؟ فتهلل قلب خالد من الفرحة وقال له: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله فقال جورج: فاذا لم أوافق؟ فأجابه بحزم المحاربين فالجزية والمنع والحرب، فقال له جورج: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ فرد عليه خالد: منزلتنا واحدة وربما أجره أكثر وهذا راجع لبيعته وصدقه بنبينا وهو لم يشاهده، وفى هذه اللحظة تغيرت ملامح جورج الذي كان على استعداد لقتال المسلمين ونطق الشهادة بعد أن علمها له خالد وصلى ركعتين، وقاتل إلى جوار المسلمين ذلك اليوم قتالا شديدا حتى أصيب واستشهد فصلى عليه المسلمين واثنوا عليه وعلى قراره الصائب، وفوزه بالجنة نتيجة لهذا القرار الحكيم، رغم أنه لم يصل إلا ركعتين في حياته.
كما أن هناك لغز طريف قد يبدو بسيط في شكله لكن في الحقيقة له أهداف ومخارج فلسفية عظيمة في دلالاتها واستنتاجاتها، حيث يقال أن هناك مجموعتان من الأطفال، مجموعة بها 8 أطفال يلعبون في ممر المسار الطبيعي للقطار، ومجموعة تضم 2 اطفال يلعبان في مسار معطل للقطار. السؤال هل إذا رأيت القطار يسير كما هو مقدر له، ولديك قرار القيادة والتسيير، هل تختار ان تترك القطار يسير كما هو مقرر له ويقتل 8 أطفال أم تقرر تغير اتجاهه الى المسار الاخر ليقتل فقط طفلين.
حقيقة انه ربما الكثير منا سيختار تغيير المسار وقتل 2 فقط بدل من قتل 8 معتقدين أنه القرار الصائب والمنطقي والإنساني.
ولكن أخي الا تعتقد أنه قرار غير صائب ومنطقي وهذا راجع أولا إلى أن الطفلين ما ذنبهما وقد اختارا اللعب في مسار مسموح اللعب فيه وأصلا هو معطل وغير صالح للاستعمال.
ثانيا لماذا نضحي بطفلين لمجرد ان الأطفال 8 الاخرين جهلة ومخالفين للقانون لأنهم يلعبون في مسار سليم ومخصص للقطار.
- ثالثا أن بتغيير مسار القطار سيسبب العديد من القتلى الأبرياء داخل القطار إضافة للخسائر المادية الأخرى.
- وأخيرا الا تعتقد أن الأطفال 8 الذين يلعبون في مسار القطار هم يعلمون أنه ممر صحيح ولهم خبرة مع وقت وأصوات القطار وحتما سيبتعدون بمجرد اقترابه.
وأختم مقالي هذا بالقول حقيقة أننا نحن البشر على علم واطلاع بأن الحياة مليئة بالقرارات القاسية والعشوائية وغير المنطقية في بعض الأحيان والتي تحتاج منا الجرأة والرزانة في التفكير والحسم، وبما أن الله أنعم علينا بالعقل والاختيار ومنحنا ممحاة بين أيدينا تمكننا من طمس القرارات الخاطئة التي نسطرها، فالنتريت إذن ونأخذ القرار الصائب لحياتنا ومن حولنا بدل القرار المتسرع والعشوائي، القرار ذا العمل القليل والأجر الكبير.
المصدر: العمق المغربي