مِن الدّْشيرة إلى الـمْحَاميد.. نضال مَجيد مِن أجل مغرب مُوَحَّد

بسم الله الرحمن الرحيم
مِن الدّْشيرة إلى الـمْحَاميد.. نضال مَجيد مِن أجل مغرب مُوَحَّد
توطئة:
شَكّلَت الصّحراء _ الأطلنتية منها والشرقية _ “مجالاً للتّطلع الأوربي منذ عهود بعيدة” إما في شكل كشوفات جغرافية أو عمليات تجسّسية أو اختراقات اقتصادية أو معاهدات تجارية كما جرى سنة 1856 واتفاقية المغربإنجلترّا في 13 مارس 1895، أو في شكل ترتيباتِ احتلالٍ مؤقَّتٍ كما هو الشأن مع معاهدة 20 يونيو 1900 بين المغرب وإسبانيا التي أطلقَت اليدَ لإسبانيا بتأسيس “سانتا كْرُوس دِي ماربيكانا بين مَصبّ وادي درعة ورأس بوجدور” سنة 1904، وشجّعَتْها على “احتلال منطقة سيدي إفني ووادي الذّهب مع الـحفاظ على كُلٍّ من الساقية الحمراء وطرفاية للمغرب”، أو احتلال مـباشر كما عرفته المنطقة بعد إقرار معاهدة الحماية سنة 1912.
- رَفْض صحراوي للوجود الاستعماري الأجنبي:
تؤكّد الوقائع التاريخية والشّهادات المتواترة أنّ المنطقة الممتدَّة مِن تْوات وكوَارة شمالاً، ومنها إلى السينغال جنوبا، ومن منطقة تندوف شرقا إلى الدّاخلة على الواجهة الأطلسية غرباً؛ لم تَـهدأ ثائرتها ضِدّ المحاولات الأجنبية التّوسعية، ولم تتوقّف الـمُصادَمات بين القبائل الصحراوية وقادتها مِن المجاهدين والشّيوخ وطلائع الاحتلال، ولم تُسفِر محاولات البريطانيين والإسبانيين التَّسَلُّلَ مِن خلال عَقْد معاهدات تجارية واتفاقية محدودة مع بعض الأهالي؛ عن أية نتائج فعلية، وبقِيَت “الصّحراء المغربية رافِضة للحضور الأجنبي“، واستَمرَّ الأهالي متمترسون بالـمجالات الصحراوية وفجاجها وشِعابها التي يَحفظونها عن ظَهْر قَلب، فيُكبّدون العدوّ الخسائر إلى مَطالع الاستقلال.
بدوره؛ سيُسْهِم جيش تحرير الجنوب المغربي في التّعامل مع الحدث الاستعماري في سنواته الأخيرة مِن مُنطلَق لغة السلاح والمقاومة، وسيُسنِد النِّضالَ الرّسميَّ الوطنيَّ في دفاعه عن الوحدة الترابية بالأساليب السّياسية والدّبلوماسية.
ورغم العديد مِن المعارك التاي خاضَتْها أَلْوِية جيش التّحرير في الجنوب _ (معركة تافودارت معركة طريق العيون معركة طريق السّدرة معركة السمارة معركة المسيد معركة سيدي أحمد العروصي معركة الدّشيرة معركة أمّ العشار الكبرى معركة الطاووس معركة دار الحباني معركة وادي النّجاح معركة وادي الصفا معركة السّويحات)؛ فإنّ الجيش عبّرَ عن “خيبته مِن تحقيق تحرير هذه البقاع” بأكمَلِها، نتيجةَ “سوء التّفاهم ما بين الدّولة وجيش التحرير الذي اعتبَر أنَّ مَهَمّتَه لم تَكتمل بَعد، فيما اعتبَرَت الدّولة بأنّ هذا الجيشَ أصبحَ أكبرَ مِن الهندام الذي لَبِسَه أوَّلَ الأمر” !
ومَع ذا؛ لم يَكن هذا التّحول ليَعْصِف بجهود ومنجَزات جيش التّحرير في الجنوب، بل أدى في نهاية المطاف إلى تحقيق المراد، سواء أتم بالمفاوضَات أو المواجهات، وحَفِظ للمجاهدين والمتطوِّعين قِيمَتَهم وإسْهامهم ونِضالهم، وعَلَّمَ قادَةَ الجيش عدم التّراجع عن “مواقفهم المبدئية رغم صعوبة الظرف” واختلاف مسارات ومآلات كثير منهم بعد السّتينات.
- الدّشيرة.. أُمُّ معارك الجنوب مِن أجل الوحدة الترابية:
بعد أنْ ناهَزَت حالات الاصْطِدام العسكري بين جيش تحرير الجنوب وقوات إسبانيا سَبْعًا وعِشرين مواجهة؛ وبعدَ أن تَـمَادى الاحتلال الأجنبي في إكثار المداهمات ضِدّ القبائل، وافتِعال حالات السّلب والنّهب للخيرات والـممتَلَكات، والاعتداء على البسطاء والساكنة بالاعتقالات وبنَفْي الشباب المناضلين؛ جَاءت معركة الدّشيرة سنتين بعد الاستقلال، تَتِمّةً لمعارك القبائل وجيش التحرير في الجنوب الشرقي، ورَدّا على العُدوان المتعدِّد الأوجه، ولِتَفكيك التّحالف القائم بين الجيش الفرنسي والجيش الإسباني اللذين صَمّما على شَنّ حمْلةٍ مباغِتةٍ على “تافودرات” قاعدة المقاومة المغربية قُرْب السّمارة، إلا أنَّ هذا الـمُخطّطَ باء بالفشل والتعثُّر، فخَسِر التحالُف في معركة الدّشيرة خسائر فادحة، واضطرت حكومة فرانكو (تــ 1975) لإرسال “وفْد لتقصّي الحقائق حول ما دار في معركة الدشيرة وسبب الهزيمة فيها”، فيما كانت حصيلة الخسائر في صفوف المقاومة المغربية اثنا عشر شهيدا.
استَمَرّت هذه المعركة الشرسة يومين كاملين، مِن بواكير 13 يناير 1958 إلى غروب شمس اليوم 14 منه، أَسَر فيها رجالُ المقاومةِ وجيش التّحرير جنوداً فرنسيين وإسبانيين “بِرُتَبٍ عسكرية مختلِفة، وإحراق تِسْعَ عَشْرَةَ سيارة كبيرة للعدو (..) و[غَنْم] خمسة وثمانون بندقية وعشرة مدافع رشّاشة وشاحنة مملوءة بالـمُؤَن والذخائر الحربية، وخمسة مسدّسات وراديو للإرسال اللّاسلكي”، وأعْطَت للمغاربة شُحنة روحية قوية لمواصلة الجهاد لغاية 1960، وأبانت عمّا يُمكِن أن تَلْعَبه الكمائنُ الـمُحكَمة مِن دَوْر بالغِ الأهمية في شَلّ قُدرات العدوّ القتالية.
- السّلطان يجْهَر بالـمَطالِب في محاميد الغِزْلان:
فَوْر نيل المغرب استقلاله، بادرت القبائل الصّحراوية بتجديد البيعة للسلطان محمد الخامس ومُشاطَرته فرْحة استقلال البلاد عن الحامي الفرنسي، واستقلال شطْرها الأكبر شمالاً وجنوبا عن الحامي الإسباني، فَفاجَأَت “المدن الصّحراوية السلطات الاستعمارية باحتفالات لم تَكن في الحسبان، مِن حيث التنظيم وحمْل العلَم الوطني ولبْس أفخم الثياب، عِلْما بأنّ السّكان كانوا ممتنِعين عن أنواع الفرح والزينة رجالاً ونساءً. وهذ العمل أثار غَضَب المسؤولين الإسبانيين”.
ويمكن وضْع زيارة السلطان محمد الخامس رحمه الله إلى منطقة محاميد الغزلان على بُعْدِ تسعين كيلومترا عن مدينة زاكورة “واجتماعه بسكان الصّحراء بتاريخ 25 فبراير 1958” في سياق الترتيبات النهائية للمفاوضات بين الطرف المغربي صاحب الحقوق المشروعة في بلاده وترابه الصحراوي، والقوات الإسبانية والفرنسية، وتَصْديقاً على مَشروعية الفرَح الوطني من الشمال إلى الجنوب بنَيْل الاستقلال وسيادة السلطان.
أكد الملك محمد الخامس في خطاب محاميد الغِزلان الذي حَجّت إليه قبائل أعريب وأهل الطلحة وأولاد يوسف وأولاد محية ومختلف القبائل الرّاحلة والظّاعِنة في منطقة زاكورة، وفق ما أوردته جريدة “صحْراء المغرب” في عددها رقم 49 بتاريخ 27 فبراير 1958؛ (أكّدَ) على رغبته في تحسين أحوال رعاياه في الصّحراء؛ اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا، وإنَالَتِهِم “حظوظَهَم مِن بركات الاستقلال وخيرات الحرية” حسب تعبيره. ووَصَف منطقة المحاميد بـأنها “بَاب صحراء المغرب”، وثَـمَّنَ نِضال أهْلِهَا وتَعَلّقهم بالعرش العلوي واسْتِمْسَاكهم بقيمة الوحدة، وجَدّد في كلمته التّأكيدَ على مواصلة العمل لاسترجاع الصّحراء مِن باب الأمانة، ورعايةً للثوابت التاريخية والجغرافية والسكانية الأزلية للمغرب.
ولا غرو، فــمحمد الخامس منذ شَبَكَ يَديه بأيْدي الحركة الوطنية المغربية أواسط ثلاثينات القرن العشرين، وأعلَن انحيازه لمطالب الشّعب المغربي سنة 1944، وجَهر بحقوقه التاريخية والسياسية في خطاب طنجة وخطاب الأمم المتحدة يوم 9 دجنبر 1957 وصولا إلى خطاب المحاميد؛ كان دوما واضِعًا “نُصبَ عينيه ضرورة وحَتمية تحرير المغرب”.
وفي أعقاب هذه الزيارة، دَشّن محمد الخامس معلمة أثَرية لتُؤرخ لزيارته للمنطقة، بالمقربةِ مِن إحدى الجنان الشهيرة، ظلّت شامخةً في المكان إلى الآن، وعلاَمة على حقيقةِ الصّلات القائمة والدائمة بين جهة درعةتافيلات وزاكورة الوَقورة بكافّة حواضر وبوادي المغرب الأقصى.
ـــــــــــــــــ
[1] (لحسيني) لطيفة: مقال “التدابير المخزنية لحماية السواحل الجنوبية المغربية؛ جهود السلطان مولاي الحسن”، مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 22، سنة 2013، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الرباط، ص: 49
[2] مجلة “الذاكرة الوطنية”، عدد خاص، طبعة 2005، ص: 146
[3] نفسه، ص: 146
[4] (الشّمسدي) عبداتي: مقال “الصحراء في المخططات الاستعمارية خلال القرن التاسع عشر”، مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 22، ص: 79
[5] (العزيز) محمد حمادي: “الذكرى الخمسون لانطلاق عمليات جيش التحرير بجنوب المملكة؛ كتابة التاريخ من داخل مَقرات صانِعيه”، مجلة الذاكرة الوطنية، عدد خاص، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الرباط، سنة 2006، ص: 59
[6] نفسه، ص: 60
[7] (الركيبي) محمد: “الصّحراء؛ أهلها، أرضها وقضيتها”، دون تاريخ الطبع واسم الناشر، ص: 50
[8] (آيت يدر) محمد بنسعيد: “صفحات مِن ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي”، الطبعة الأولى 2001، الدار البيضاء، ص: 88
[9] (ادويهي) بابا أحمد و(الزروالي) احميد: مقال “مؤتمر أم الشكّاك”، مجلة الذاكرة الوطنية، مرجع سابق، ص: 177
[10] (بَشُوظ) الحسين: “معركة الدشيرة سنة 1958″، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة أصكوم، القُنيطرة، الطبعة الأولى، 2022، ص: 18
[11] (الليلي) إبراهيم: مقال “دَوْر أبناء الأقاليم الجنوبية في الحركة الوطنية وجيش التحرير”، نفسه، ص: 164
[12] (حديدي) الحسين: دراسة “ثورة الملك والشعب وتفاعل سكان الجنوب المغربي مع أحداثها”، مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 44، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الرباط، طبعة 2024، ص: 238
[13] (عواد) محمد: مقال “انطباعات واحدٍ مِن الـمُقَربين”، مجلة الذكرة الوطنية، عدد خاص بمناسبة الذكرى الخمسينية لعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى ونيل الاستقلال، نَشر المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، طبعة 2005، ص: 29
ـــــــــــــــــ
* عدنان بن صالح، باحث بسلك الدكتوراه، مختبر: “شمال المغرب وعلاقته بحضارات الحوض المتوسّطي”، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي تطوان
الصويرة بتاريخ 15 أبريل 2025
المصدر: العمق المغربي