اخبار السودان

عصر الغاب وتكاثر الألقاب !!

سيد محمود الحاج

 

حين تشاهد وتستمع إلى الكثيرين ممن ظلّت تستضيفهم القنوات الفضائية المختلفة مؤخراً ، من أكاديميين وعسكريين وخبراء إستراتيجيين مسيّسين وصحفيين مأجورين وغيرهم من المنتفعين ، تجد أن معظمهم يسبقه لقب (دكتور) او رتبة لا تقل عن فريق أو لواء او حتى لقب دكتور ذاته وهذا أمر لم يُعهد فيمن سبقهم من الأكاديميين والعسكريين الأوائل .. وحين يحاورون ويتحدثون تجد أن البعد عن الحقيقة يكاد يكون قاسماً مشتركاً يجمعهم بمختلف فئاتهم .. ينكرون الحقيقة الماثلة أمام أعين العالم والتي لا ينكرها إلّا من كان بعينه رمدٌ أو كان بعقله سقم ، ومن خلال ما يدلون به أثناء تحاورهم يتّضح لك مدى بعد المسافة التي تفصل بينهم وبين تلك الدرجات وتلك الرتب التي قدموا بها أنفسهم . فقد عهدنا في أصحاب الدرجات الأكاديمية والرتب العسكرية الرفيعة رزانة الكلمة وحصافة الرأي والصدق فيما يقولون ومجافاة كل ما يحط من قدرهم أو يجعلهم محط سخرية من يشاهدهم ومن يستضيفهم لإبداء الرأي في أمر ما .. غير أنهم وللأسف ظل أمثالهم يشوهون صورة المثقف السوداني الذي عُرف برأيه الثاقب وفكره المستنير وبُعد النظر وقدرته على التحاور دون تلعثم أو معاناة البحث عن المفردة المناسبة !! فقد رأينا وسمعنا من أمثالهم إبان المظاهرات التي أسقطت نظام البشير من يقول ، (هداه الله وبسط عليه ثوب الصدق) أثناء تواصله مع إحدى القنوات ان عدد المتظاهرين لا يزيد عن العشرات بينما كانت الحقيقة أن عشرات الألوف من المتظاهرين في ذلك الحين تملأ الشوارع ، ويردف بأن ما يحدث لم يفعل أكثر من أن زاد من عدد المؤيدين للنظام ، وحين سقط النظام بعد يومين من ذلك سرعان ما لاذ بالإستكانة أو ما يُعرف بفترة البيات الشتوي وأنقطع نقيقه عقب ذلك ولم يعاود النقيق ثانية إلا بعد إنقلاب البرهان الأخير وحلول فصل المنافع .

كذلك كان الحال بعد فض الإعتصام إذ إنبرت ذات الأصوات (مسبقة الدفع) مدّعية أن من تم فضّهم كانوا من مروجي ّ ومتعاطيي المخدرات ومجرمين وساقطات وحدث ما حدث . وبإندلاع الحرب طال أمد فصل المنافع ليغيّب بقية الفصول ويصبح النقيق زئيرا فانبرأ صوت سعادة الفريق وهو يضحك ساخراً في إجابته على سؤال مذيع القناة قائلاً : “يا أخي دي ما أكتر من زوبعة .. بأكد ليك إنها كلها يومين بس وتنتهي” مع ان المذيع لم يطلب منه تأكيداً ، وكأني بذلك المذيع يقول له ساخراً : “فتح الله عليك يا سعادتك” .. عامان مضيا والموية كضبت الغطاس وللأسف مازالت معاداة السادة الدكاترة والفرقاء واللواءات للحقيقة في إزدياد يجعلك تحس بأن كلمة حقيقة في قواميسهم لم يعد لها معنى وان كلمة مصالح حلّت محل كلمة ضمير وأنه عما قريب ستطغى عبارة (معاداة الكذب) على عبارة (معاداة السامية) ، فالثورة التي أشاد بها العالم كله ، قال قائلٌ مأجور جعل النفاق شيمته ، أنها ثورة مصطنعة (فالمجد لله والحمدلله على كل حال) ، وزعم مثل زعمه ذو لحية أسموه شيخاً بل و يسبق إسمه لقب دكتور .. سارع بالفرار حين أُكتشف أمر الخمسة مليون دولار التى حباه بها رأس النظام مقابل فتوى تبيح له قتل ثلثي أهل الوطن ، والذي فضحه (بعضمة لسانه) من بعد .. إنه ذلك الشيخ الفار .. وهل يفرّ إلّا الفأر !! وشيخ مثله قدم نفسه كرئيس لجماعة الأخوان المسلمين فكان في الحق رئيساً للأخوان المسيلميين إذ إدّعى بهتاناً وزوراً أن لجنة التمكين قد سلّمت مبنى جمعية القرآن الكريم لجماعة المثليين وليس للمثليين في السودان جماعة إلاّ أن يكون لأحد سواه معرفة بها … فما أكثر أمثال هذا فهنالك الهنديٌّ إسماً والسودانيٌّ إنتماءً ، وهنالك المتزمّل بجهله وهنالك أيضاً توم سوير (الحقّنا برانا) وليس توم سوير (بتاع مارك توين) ، فتوم سوير السوداني بات ينافس الحرباء تلوّناً فتجده في المعارضة لنظام الكوز مناضلاً وفي إعتصام الموز إماماً وبإندلاع الحرب تراه في زي العسكر قائداً وفي بورتسودان في زيّ وزير يحلم أن يكونه بعد أن أجاد كل أدوار التملّق وهو الذي يظهر لنا في ميدان القتال في سنجة صباحاً وفي مساء ذات اليوم يظهر في بورتسودان وكأن من يعينه في ذلك هو من أتى لسليمان بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ إليه طرفه أو أن يكون هو نبي الله الخضر ، فعسى بعد كل هذا العناء أن يحقق له البرهان حلمه كما تحقق للبرهان حلم والده !!

 

وما زلنا نشاهد ونستمع لمثل أولئك في كل يوم سوى من خلال القنوات الفضائية أو ما يبثونه من أكاذيب وإدعاءات باطلة عبر وسائل التواصل الأخرى وهم في سعي دؤوب لا يكلّ ولا يمل ّ لكي يصنعوا من الكذب والزيف حقيقة ومن الحقيقة الدامغة كذباً فتجد لهم العذر لأنهم إذا ما أخفقوا في المهام الموكلة إليهم فستسدّ أبواب رزقهم الذي ظل يأتيهم حتى عتبات أبوابهم دون جهد سوى عرق ألسنتهم إذا ما أنبثق فجر الحق والحقيقة وساعتها فلا محالة أنهم سوف يفقدون تلك الألقاب التي أُختلست لهم من حساب أصحابها الحقيقيين لتغطية عورات جهلهم فينادون بعدئذٍ كما يُنادى الكلب : “سيد اللسان جاك” ، وسيد اللسان أو صاحب اللسان المقصود كما ورد في أدبنا الشعبي هو التمساح إذ يقال أن الكلب قد ورد النيل ذات مرة ليروي عطشه ولم يكن له آنذاك لسان يمكنه من ولغ الماء فطلب من التمساح أن يعيره لسانه ليعيده له ريثما يروي عطشه مقابل ان يسدي له معروفاً إذا ما أحتاجه يوماً فلم يتردد التمساح في إسداء المعروف إلا أن الكلب لاذ بالفرار بعد إطفاء ظمئه ولسان التمساح بين فكيه ، إلاّ أن التمساح إستطاع الصمود دون لسان بينما ظل الكلب متوجّساً حتى يومنا هذا مخافة أن يأتي صاحب اللسان مطالباً بلسانه المسروق !!

فسوق الدرجات الأكاديمية والشهادات العليا و دالرتب العسكرية الرفيعة في عهد الإنقاذ كان رائجاً وأسعاره لا تُنافس بالنسبة للمشترين من العامة ، أما أذيال النظام فلم يكونوا في حاجة لدفع أي مبلغ وكل ما عليهم هو أن يجيدوا العواء والنباح او حتى النقيق وعندها تكون درجة الدكتوراه ورتبة فريق او لواء وربما مرتبة وزير أرخص من ربطة الجرجير في فصل الشتاء ، فلا غرابة ولا عجب لمن عاش في عصر الغاب والدجل لثلاثين عاماً ولم يزل !!

كان الله في عونك يا بلد .. ويا ولد ما شاف زمان كان حالنا كيف !!!!

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *