حين ترى الآلة… وتعمى البصائر

أمد/ الذكاء البصري في زمن البصيرة الغائبة..في البدء… كانت الصورة.
مشهد صامت، ضوء وظلال، لون وارتعاشة حركة. لكن الإنسان لم يكتفِ بأن يرى، بل أراد أن يفهم ما يرى. ومن هذه الرغبة، وُلد علم البصيرة الاصطناعية: الذكاء البصري في الذكاء الاصطناعي.
إنه ليس مجرّد قدرة على التقاط صورة، بل مهارة تعقّب التفاصيل، وتحليل السياق، واستخلاص المعنى من إطار صامت. هو الذكاء الذي يمنح للآلة عينًا، وللعين عقلًا، وللعقل رؤية تتخطّى الصورة إلى المعنى.
الآلة التي تعلّمت أن ترى
في مختبرات الصمت والضوء، تعلّمت الآلة كيف “تفتح عينيها”.
بدأت بكاميرا بسيطة، ثم نمت، وتحوّلت إلى أنظمة رؤية حاسوبية متقدمة، تعمل بشبكات عصبية تحاكي الدماغ البشري، فتفكك الصورة إلى طبقات من المعاني:
هذا وجه، وهذه إشارة مرور، وتلك مشاعر، وذلك مرض دفين تحت الجلد، تفضحه الأشعة.
لم تعد الآلة ترى فقط، بل تتعرّف، تلاحظ، تقارن، وتقرر.
صارت السيارات تقود نفسها، والطائرات تُحلّق من دون طيّار، والجراحون يعتمدون على عيون إلكترونية تشخّص وتكشف وتدلهم حيث يعجز حدس الإنسان.
بصيرة إلكترونية… أم وعي مستعار؟
لكن لنسأل بجرأة: هل الآلة ترى فعلًا، أم أنها تحاكي الرؤية؟
وهل الذكاء البصري اصطناعي لأن مصدره آلة… أم لأننا كبشر، فشلنا أحيانًا في استخدام ذكائنا الطبيعي؟
الذكاء البصري لا يصنع فنانًا، لكنه يعطي الفنان أداة؛ لا يخلق شاعرًا، لكنه يقرأ المشهد مثل قصيدة صامتة.
هو مرايا بلا قلب، وعدسات بلا عاطفة، لكنه إذا وُضع في يدٍ واعية، صار أداة للنهضة، وإذا وُضع في يدٍ عمياء، صار أداة للمراقبة، والقمع، وربما للتضليل.
وفي المقابل… محور يرى بعين واحدة
وهنا، لا بد أن ننتقل من فضاء الآلة… إلى غابة السياسة.
فبينما تتطوّر الرؤية الاصطناعية لتبلغ دقة لا تُصدّق، لا تزال بعض الأنظمة وتحديدًا محور الممانعة عاجزة عن التمييز بين النصر والهزيمة، بين الواقع والوهم، بين مصلحة الشعوب ومصلحة الكرسي.
هم لا يحتاجون إلى كاميرات ذكية، بل إلى نزع العدسات المعتمة التي كبّلت عقولهم.
بينما تقرأ الآلة الوجوه وتفكّك العواطف في لقطة، يقفون هم على ركام مدينة مدمّرة، ويهتفون: “انتصارٌ إلهيٌّ جديد!”
تفرّ الآلات الذكية من المعارك لأن فيها “حياة”، ويُرسل أولئك أبنائهم إلى الجبهات لأن فيها “كرامة”، ثم يحصون الجثث كأوسمة، ويصفقون للأنقاض كدليل صمود.
أما الذكاء البصري؟ فلو نظر إليهم، لربما توقّف عن التعلم خجلاً… إذ كيف لعقل إلكتروني أن يتقدّم، فيما بصائر بعض القادة لا تزال تنام في الجاهلية الفكرية؟
قد تتأخر الآلة أحيانًا في التعرّف على وجه، لكنها لا تخطئ في تصنيف الركام. أما هم، فقد فقدوا القدرة على الرؤية… إلا حين ينظرون في المرآة ولا يرون إلا أنفسهم.