رصدت «الإمارات اليوم» مقاطع فيديو «ريلز» لمرضى نفسيين يوثّقون تجاربهم ومعاناتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، في محاولة لمشاركة مشاعرهم أو دعم غيرهم من المرضى، في حين تحوّل بعضهم إلى «مؤثرين نفسيين»، يقدمون نصائح لمن يعانون أياً من الأمراض النفسية.

وحذّر أطباء من الأخطار النفسية العميقة التي قد تصاحب هذه الظاهرة، رغم ما تحققه من إسهام إيجابي في كسر الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي، مؤكدين أن الإفراط في المكاشفة العلنية قد يعرّض المريض لانتكاسات أو أحكام مجتمعية قاسية تزيد حالته تعقيداً.

ووثّقت فتاة تجربتها مع انتكاسة اكتئابية بعد تشخيصها بـ«اكتئاب مقاوم للأدوية»، من خلال فيديو شاركت فيه تفاصيل استخدامها بخاخاً علاجياً جديداً وصفه لها الطبيب، سائلة متابعيها عن تجاربهم ونهاية معاناتهم.

وظهرت الفتاة وهي تسرد نوبات الاكتئاب التي تمر بها، وتوثّق لحظة دخولها المستشفى لتلقي العلاج.

وعلى الرغم من رفض والدتها نشر الفيديو، فقد أصرت على مشاركته دعماً لغيرها من المرضى. ولاقى المقطع تفاعلاً واسعاً بين أشخاص عبّروا عن التعاطف والتشجيع، وآخرين انتقدوا نشر حالتها النفسية علناً أو سخروا من توثيقها، في حين نصحها بعضهم بتلقي هذا العلاج، واقترحوا بدائل دوائية أخرى.

وبيّن أطباء لـ«الإمارات اليوم» أن المشاركة العلنية لتجارب العلاج قد تعكس دوافع أعمق، مثل البحث عن القبول والانتماء أو محاولة إعادة بناء الهوية الذاتية بعد فترة من الضعف، محذّرين من أن التعرض لردود فعل سلبية بعد النشر كالتنمر أو التقليل من التجربة قد يؤدي إلى الشعور بالخجل أو الندم أو انخفاض تقدير الذات واضطراب المزاج والقلق، وربما عودة الإحساس بالوصمة، خصوصاً إذا ربط المريض تقدّمه النفسي بعدد إشعارات الإعجاب أو التعليقات التي يتلقاها.

وفي بعض الحالات، قد تحدث انتكاسة نفسية عند التعرض لهجوم أو استهزاء بعد الإفصاح عن تجربة مؤلمة، نتيجة الاعتماد المفرط على التفاعل الإلكتروني بدلاً من الدعم العلاجي الحقيقي.

كما حذّر المختصون من تحوّل بعض المرضى إلى «مؤثرين نفسيين»، مؤكدين أن الحديث عن التجربة الشخصية حق مشروع، لكن تقديم نصائح أو تفسيرات علمية دون تأهيل أكاديمي أو إشراف مهني يُعد أمراً خطراً وقد يؤدي إلى تضليل المتابعين أو إيذائهم نفسياً، داعين الراغبين في هذا النوع من المحتوى إلى الاستعانة بخبراء وأطباء مختصين أو دراسة المجال قبل تقديم أي محتوى له طابع علمي.

الوصمة الاجتماعية

وتفصيلاً، أكدت استشاري الطب النفسي الدكتورة أمل عطوة إبراهيم، أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت في السنوات الأخيرة مساحة يشارك فيها الأفراد تجاربهم الحياتية، ومنها تجاربهم مع المشكلات النفسية والعلاج النفسي، مشيرة إلى أن هذه الظاهرة قد تُسهم في كسر الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي، إلا أنها في الوقت ذاته قد تحمل أبعاداً نفسية أكثر تعقيداً.

وأوضحت أن هناك سببين لمشاركة المرضى تجاربهم العلاجية، هما الحاجة إلى الدعم والتقدير من الآخرين، والرغبة في تحويل المعاناة إلى رسالة أمل تساعد غيرهم على طلب المساعدة أو تجاوز الشعور بالخجل من المرض النفسي.

وأضافت أن المشاركة العلنية لتجارب العلاج قد تعكس دوافع أعمق مثل البحث عن القبول والانتماء، أو محاولة إعادة بناء الهوية الذاتية بعد فترة من الضعف، وأحياناً تكون تعبيراً لا شعورياً عن الرغبة في تأكيد الذات أمام من شككوا فيها سابقاً، مشيرة إلى أنه في بعض الحالات، يمكن اعتبار هذا السلوك جزءاً من عملية التعافي أو الدعم الذاتي، ما يعكس تقدم المريض في تقبل ذاته وتجاوزه مشاعر الخجل.

وحذّرت من أن التعرض لردود فعل سلبية بعد النشر كالتنمر أو التقليل من التجربة قد يؤدي إلى الخجل أو الندم أو انخفاض تقدير الذات، واضطراب المزاج والقلق، وربما عودة الشعور بالوصمة، خصوصاً إذا ربط المريض تقدمه النفسي بعدد ما يتلقى من إشعارات إعجاب أو تعليقات.

وقالت: «في بعض الحالات، قد يتسبب ذلك في انتكاسة نفسية عندما يتعرض لهجوم أو استهزاء بعد أن أفصح عن تجربة مؤلمة، نتيجة الاعتماد المفرط على التفاعل الإلكتروني بدلاً من الدعم الداخلي».

وشدّدت على ضرورة أن تكون مشاركة التجارب النفسية قراراً مدروساً، وليست اندفاعاً عاطفياً، وأن تتم بعد مناقشة مع الطبيب المعالج، كما نصحت بتجنب ذكر تفاصيل دقيقة عن الأدوية أو التشخيصات، والحفاظ على حدود واضحة بين الحياة الخاصة والصورة العامة، مؤكدة أهمية مراجعة الطبيب إذا شعر المريض بالاضطراب أو الندم بعد النشر.

وأكدت أن «مشاركة المرضى تجاربهم قد تكون خطوة إيجابية نحو التعافي إذا تمت بوعي واتزان، أما إذا تحولت إلى وسيلة لإرضاء الآخرين أو إثبات الذات، فقد تصبح عبئاً نفسياً جديداً، إذ إن التوازن والوعي هما المفتاح في التعامل مع هذه الظاهرة».

العلاج المهني

قال اختصاصي الطب النفسي الدكتور عبدالسلام الحكيم، إن منصات التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدّين في ما يتعلق بالصحة النفسية، إذ ساعدت كثيرين على كسر حاجز الوصمة الاجتماعية وإيجاد مساحات دعم افتراضية، لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب أمام أخطار المقارنة المفرطة واستهلاك محتوى غير علمي، ما قد يؤدي إلى زيادة مستويات القلق والاكتئاب أو تأخير طلب العلاج المهني.

وأضاف أن مشاركة التجربة النفسية عبر وسائل التواصل لا يمكن اعتبارها علاجاً علنياً، لأن جلسات العلاج الجماعي نفسها (Group Therapy) تخضع لضوابط ومحددات مهنية واضحة، ولا يجوز نقلها إلى الفضاء الرقمي المفتوح، مؤكداً أن مشاركة التجارب إذا كانت نوعاً من التنفيس أو الدعم المعنوي، فيجب أن تكون عامة وغير شخصية، دون التطرق إلى تفاصيل دقيقة عن الحالة أو مسار العلاج.

وحذّر من ربط تقدير الذات بعدد الإعجابات أو التعليقات، لأن ذلك يجعل الحالة النفسية رهينة لعوامل خارجية متقلبة، مشيراً إلى أن «التفاعل الرقمي، بما يشمله من إعجابات وتعليقات، قد يكون محفزاً نفسياً قوياً لدى بعض المرضى، لكنه في الوقت ذاته قد يتحول إلى سلاح مؤذٍ عند التعرض للانتقاد أو التنمر، ما قد يؤدي إلى انتكاسة نفسية».

وفي ما يتعلق بمشاركة التجارب العلاجية، شدّد على ضرورة أن يتم ذلك فقط عبر المنصات التي يشرف عليها أطباء أو مختصون نفسيون، وبعد مراجعة الطبيب المعالج.

ونوّه بأن بعض المرضى قد يحاولون تقليد تجارب الآخرين المنشورة دون أن تكون حالتهم مماثلة، ما قد يؤدي إلى نتائج سلبية أو تفاقم للأعراض.

وفي تعليقه على ظاهرة تحوّل بعض المرضى إلى «مؤثرين نفسيين»، أوضح أن الحديث عن التجربة الشخصية حق مشروع، لكن تقديم نصائح أو تفسيرات علمية دون تأهيل أكاديمي أو إشراف مهني يُعد أمراً خطِراً، وقد يؤدي إلى تضليل المتابعين أو إيذائهم نفسياً.

وقال: «إذا أراد المريض أن يصبح مؤثراً نفسياً، فعليه دراسة المجال أو الاستعانة بخبراء وأطباء مختصين قبل تقديم أي محتوى له طابع علمي».

ودعا المرضى إلى متابعة الحسابات المتخصصة والموثوقة فقط، وتجنّب استبدال الجلسات العلاجية بالمحتوى الرقمي، كما نصح المرضى بمراقبة حالتهم النفسية خلال الاستخدام، فإذا لاحظ المريض أن التصفح يزيد القلق أو الاكتئاب، فعليه التوقف مؤقتاً أو أخذ استراحة رقمية، حفاظاً على توازنه النفسي.

المفاهيم المجتمعية

قالت الاختصاصية النفسية حصة الرئيس، إن المجتمع يتفاعل عادةً مع من يشارك رحلته في العلاج النفسي بمشاعر متباينة، تبدأ غالباً بالتعاطف والدهشة، ثم تتحوّل مع الوقت إلى تقدير واحترام للشجاعة في طلب المساعدة، مشيرة إلى أن «كثيرين يجدون في هذه القصص مصدر إلهام يدفعهم لبدء رحلة التعافي بأنفسهم».

وأضافت أن مشاركة التجارب النفسية علناً تُسهم في كسر وصمة المرض النفسي وتغيير الصورة النمطية عنه، إذ يُنظر إلى أصحابها باعتبارهم نماذج للتعافي والوعي الذاتي، لكنها حذّرت في الوقت ذاته من احتمال استخدامها ضد المريض اجتماعياً أو مهنياً في بعض البيئات التي لاتزال تفتقر للوعي الكافي.

وأوضحت أن المراهقين والنساء أكثر الفئات عرضة لتأثيرات سلبية نتيجة المشاركة العلنية، «فالمراهقون أكثر حساسية تجاه نظرة الآخرين ويعتمد جزء كبير من شعورهم بالهوية والانتماء على تقبّل أقرانهم لهم، وعندما يشاركون تجاربهم النفسية، قد يواجهون سخرية أو تنمراً، أو يُنظر إليهم على أنهم أشخاص ضعفاء أو مختلفون، ما يؤثر سلباً في ثقتهم بأنفسهم أو علاقاتهم الاجتماعية. أما النساء، فرغم ازدياد الوعي لاتزال بعض البيئات تُحمّل المرأة مسؤوليات اجتماعية مضاعفة، وتُتوقع منها دائماً القوة والصبر دون أن تظهر هشاشتها أو معاناتها النفسية. لذلك، فعند مشاركتها تجربتها، قد تُواجَه بأحكام قاسية، أو تُساء معاملتها في محيطها الأسري أو المهني، بحجة أن مشكلتها النفسية تؤثر في كفاءتها أو استقرارها».

ومع ذلك، ترى الرئيس أن شجاعة هؤلاء في الحديث تُسهم في تغيير المفاهيم المجتمعية وتعزيز تقبّل الصحة النفسية.

وحول تقييم أمان النشر، شدّدت على أهمية وعي المريض بخصوصية المنصة وطبيعة المتابعين، وضبط إعدادات الحساب بما يضمن أن تصل مشاركاته إلى دائرة داعمة ومتفهمة، مع تجنّب التفاصيل الحساسة أو الاعتماد على ردود الفعل كمصدر للتقدير الذاتي.

 

المصدر: الإمارات اليوم

شاركها.