لجأ متهمون في قضايا عدة إلى المحاكم المدنية طلباً لتعويض عما اعتبروه بلاغات كيدية، أصابتهم بأضرار نفسية ومعنوية ومادية بالغة، إلى أن ثبتت براءتهم من تلك التهم، أو قررت النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى.
ورصدت «الإمارات اليوم» قضايا متنوعة، من بينها دعوى أقامها شخص عربي ضد صديقته السابقة، يتهمها بالاحتيال وتشويه سمعته ببلاغ كيدي، قاصدة تدمير مستقبله الوظيفي.
ودعوى أقامها طبيب ضد مديريه في العمل، يتهمهما بأنهما ألحقا به ضرراً نتيجة بلاغات كيدية، وأوامر ضده من قاضي الأمور المستعجلة لمنعه من السفر.
وقضت المحكمة المدنية برفض الدعويين السابقتين، لكنها حكمت في المقابل بأحقية مدعين آخرين بتعويضات مادية في دعاوى مشابهة، بلغت قيمتها في إحدى القضايا 200 ألف درهم، لموظف اتهمته شركته بالتزوير لحرمانه من مستحقاته المالية، لكنه حصل على البراءة بعد ثبوت أنه بلاغ كيدي، وأنصفته المحكمة بتعويض ضخم.
وأكد قانونيان لـ«الإمارات اليوم» أن التقاضي من الحقوق التي يكفلها الدستور والقانون للأفراد والشخصيات الاعتبارية، لكن ليس بشكل مطلق، حتى لا يتحول إلى وسيلة للإضرار بالآخرين بشكل كيدي.
وأشارا إلى أحقية ضحايا البلاغات الكيدية، في ضوء التشريع الإماراتي، بالمطالبة بالتعويض العادل عن الأضرار التي لحقت بهم، وللمحكمة تحديد ما إذا كان الطرف المدعى عليه تعسف في استعمال حق التقاضي أو التزم بالقانون وتمسك بحقه.
وتفصيلاً، تنظر محاكم الدولة قضايا عدة، يتحول فيها متهمون سابقون إلى مدعين يطلبون التعويض عن الضرر الذي لحق بهم نتيجة ما يعتبرونه «بلاغات كيدية» من الطرف الآخر، وشملت القضايا التي تابعتها «الإمارات اليوم» دعوى أقامها رجل عربي ضد صديقة سابقة، يتهمها بتحرير بلاغ كيدي ضده بهدف تشويه سمعته وتدمير مستقبله الوظيفي، تمثل في اتهامه بالتعدي عليها وسبها، وبموجب ذلك مُنع من السفر بقرار من النيابة العامة، قبل أن يصدر قرار بحفظ الأوراق إدارياً ضده، وطلب تعويضاً مدنياً قيمته 200 ألف درهم.
من جهتها، مثلت المدعى عليها أمام المحكمة المدنية، وقالت إنها مصدومة من رد فعله ودعواه، لأنها تنازلت بإرادتها الحرة عن بلاغها ضده، وعلى هذا الأساس تم حفظ الدعوى، لكن فوجئت بأنه يتهمها بالاحتيال والبلاغ الكيدي، ويقاضيها مدنياً.
وبعد نظر الدعوى، انتهت المحكمة إلى أنه تبيّن لها حسن نية المدعى عليها، وعدم تعسفها في استعمالها لحق التقاضي، أو ما يفيد بأنها تعمدت ذلك لتحقيق غاية أو مصلحة شخصية غير مشروعة.
وفي قضية أخرى، قاضى طبيب في أحد المستشفيات مديريه في العمل، طالباً إلزامهما بسداد تعويض قدره 100 ألف درهم عما أصابه من ضرر مادي ومعنوي ونفسي، بدعوى إقامتهما بلاغات كيدية ضده لمنعه من السفر.
وبدأ النزاع على خلفية اتهامه من قبل مديرته بإرسال رسائل نصية من هاتفه إلى هاتفها، تتضمن سباً وقذفاً، ثم قيامه بحذف تلك الرسائل بطريقة ما، وحوكم جزائياً بتهمة السب والقذف، لكن برأته المحكمة.
ولجأ الطبيب إلى القضاء المدني مطالباً بالتعويض عما تعرّض له من تضرر، بسبب ما وصفه بتحرير بلاغات كيدية، وأوامر ضده من قاضي الأمور المستعجلة، لمنعه من السفر، بما يتناقض مع طبيعة مهنته التي تفرض عليه حضور اجتماعات وندوات تابعة لعمله، ولا يستطيع التخلف عنها، كما أن والدته مقيمة في بلاده، ويحتاج إلى رؤيتها من وقت لآخر للاطمئنان عليها.
وانتهت المحكمة المدنية إلى أن المدعى عليهما لم يسيئا حق التقاضي، ولم تكن شكواهما كيدية، ولا تشكل خطأ يوجب التعويض، ورفضت الدعوى.
في المقابل، حصل موظف آخر على تعويض كبير بلغ 200 ألف درهم، بسبب اتهامه كيدياً من قبل مالكي الشركة التي كان يعمل فيها بتزوير عقد لزيادة راتبه وعمولاته، الأمر الذي أدى إلى منعه من السفر، ونتج عنه عدم قدرته على زيارته والدته المريضة، ووفاتها قبل أن يراها أو يشارك في دفنها.
وقضت محكمة الجزاء ببراءة الموظف المتهم، وأوردت في أسباب حكمها أن الشكوى المقدمة ضده من صاحبي الشركة كيدية، ولم يقصدا منها سوى دفعه للتنازل عن مستحقاته العمالية.
بدورها، انتهت المحكمة المدنية إلى ثبوت ركن الخطأ من جانب مديري الشركة، ما ترتب عليه حالاً ومباشرة أضرار مادية، تمثلت في ما تكبده من نفقات لتوفير الدفاع عنه أمام النيابة العامة والمحكمة، وتعرضه للتدابير الاحترازية المترتبة على البلاغ، فضلاً عما لحق به من أضرار أدبية تمثلت في المساس بشرفه، وما أصابه من حزن وأسى جراء التحقيق والمحاكمة التي تعرض لها، وعوضته بمبلغ 200 ألف درهم، وأيدت محكمة الاستئناف المدنية الحكم.
من جهته، قال المحامي، الدكتور عبدالله يوسف آل ناصر، إن الحق في التقاضي يعد ركناً أصيلاً من ركائز العدالة، غير أن هذا الحق ليس مطلقاً، بل قيده المشرّع الإماراتي بضوابط تحول دون الانحراف به إلى وسيلة للنيل من الآخرين، أو الإضرار بسمعتهم ومكانتهم، لافتاً إلى أن البلاغ الكيدي يعد من أبرز صور هذا الانحراف، ويسجل بسوء نية وبقصد الكيد أو الانتقام، وهو فعل يخرج عن نطاق الحماية التي أرادها القانون للحق في اللجوء إلى القضاء، ويُنشئ في المقابل مسؤولية تقابلية تقوم على التعويض عن الأضرار الناشئة عنه.
وأضاف أن المادة (26) من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي رقم (38) لسنة 2022 أرست مبدأ جلياً يقضي بتمكين من وُجه إليه اتهام كيدي من المطالبة بجبر الضرر الذي حاق به، سواء كان هذا الضرر مادياً تمثل في خسائر مالية وما فاته من كسب، أو معنوياً أصاب كرامته أو شرفه أو مكانته الاجتماعية. وهو يتسق مع ما قررته المادة (106) من قانون المعاملات المدنية الاتحادي رقم (5) لسنة 1985، إذ تنص على أن استعمال الحق مشروع ما لم يقم الدليل على التعسف، فإذا توافر التعسف، تحققت المسؤولية، وتعيّن الحكم بالتعويض.
وأكد أن القضاء الإماراتي استقر على أن إساءة استعمال حق التقاضي صورة من صور الخطأ الموجب للمسؤولية المدنية، إذ لا يجوز أن يتحول القضاء من منبر للإنصاف إلى أداة للتشهير أو الإيذاء. وعلى هذا الأساس، فإن البلاغ الكاذب لا يقف أثره عند حدود المساءلة الجزائية، بل يتجاوزها إلى التعويض المدني الذي يهدف إلى إعادة التوازن ورد الاعتبار للمتضرر.
وأشار إلى أن كل ضحية بلاغ كيدي يملك، في ضوء التشريع الإماراتي، الحق في طرق أبواب العدالة للمطالبة بالتعويض العادل عن كل الأضرار التي لحقت به، ليظل مبدأ سيادة القانون قائماً على قاعدة أصيلة، وهي أن الحقوق تُمارس في حدودها، فإذا خرجت عن غايتها، انقلبت من نعمة إلى نقمة، واستحقت المساءلة والتعويض.
المتضرر
قال المحكّم والمستشار القانوني، محمد نجيب، إن هناك قضايا مدنية عدة حسمت لمصلحة المتضرر من البلاغات الكيدية، مثل حالة موظف قاضته شركته بتهمة التزوير، وحصل على تعويض بعد ثبوت كيدية البلاغ.
وأضاف أن من الضروري إدراك أن التقاضي من الحقوق التي كفلها الدستور والقانون للأفراد، لكن ليس بشكل مطلق، حتى لا يتحول إلى وسيلة للإضرار بالآخرين بشكل كيدي.
وأوضح أنه بالنظر إلى المادتين 104 و106 من قانون المعاملات المدنية، نجد أن المشرّع وضع مبدأ وجوب الضمان على من استعمل حقه في التقاضي بشكل غير مشروع، وحدد أربعة معايير للاستعمال الذي يصدق عليه وصف التعسف، أولاً أن يكون مقصوداً به الإضرار بالغير، وثانياً أن يكون بغرض تحقيق مصلحة غير مشروعة، والثالث أن يترتب على استعمال الحق تحقيق مصالح قليلة الأهمية لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر، والرابع أن يتجاوز الشخص في استعمال حقه ما جرى به العرف والعادة بين الناس، ما مؤداه أن إساءة استعمال الحق لا تتوافر إلا إذا تحققت إحدى الحالات الأربع السابقة، ومبناها جميعاً أن تكون مشوبة بالكيد، وسوء النية، ولا يقصد بها سوى الإضرار بالطرف الآخر.
وبحسب المادة 26 من قانون الإجراءات الجزائية «يحق للمتهم التقدم بدعوى تعويض عن شكوى قضائية، جراء الضرر الناتج عن اتهامه كيدياً من قبل المبلّغ أو المجني عليه».
فيما تنص المادة 282 من قانون المعاملات المدنية على أن «كل إضرار بالغير يُلزم فاعله، ولو غير مميز، بضمان الضرر».
وتابع أن لجوء الشخص إلى الشكوى أو إلى القضاء المدني هو الطريق القانوني للحصول على حقه من الطرف الذي يعتقد أنه اتهمه كيدياً أو كذباً، لكن يجب استيعاب أن رفض الشكوى أو القضية ربما يكون بسبب ضعف حجته، ومن ثم تستقل محكمة الموضوع بتقدير ثبوت سوء النية والكيد من عدمهما، وبالتالي يُحكم أحياناً لمصلحة طالب التعويض، وأحياناً ترفض دعواه.
• 200 ألف درهم تعويضاً لموظف اتهمه مديراه كذباً بالتزوير.
المصدر: الإمارات اليوم