٢٥ أكتوبر انقلاب الفنيين وموت السياسة

محمد الفكي سليمان 

“الفنيون” هم جماعة من الحركيين الإسلاميين تم تفريغهم من قبل حزبهم للعمل داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية. وهي جماعة غير معروفة لدى الفاعلين في المجال السياسي، لطبيعة عملها السري وخطورته. وقد كشف الدكتور حسن الترابي النقاب عن أبرز هذه الأسماء في حواره المطوّل مع قناة الجزيرة، والذي نُشر بعد وفاته. ومع أن كثيراً من هذه الأسماء باتت معروفة، لأنها خرجت إلى العلن وأمسكت بزمام مؤسسات الدولة عقب المفاصلة الشهيرة داخل الحركة الإسلامية.

يتكرر السؤال يوماً بعد يوم: لماذا لا تتفاوض القوى السياسية التي قادت الانتقال مع الإسلاميين، رغم أنهم باتوا الأكثر نفوذاً وتأثيراُ في مشهد الحرب الراهن؟ هذه ليست مبالغة؛ فهم يديرون جهاز الدولة بكامله اليوم.

المعضلة الحقيقية في الحركة الإسلامية اليوم تكمن في هيمنة المجموعة “الفنية” على العمل السياسي داخل المؤتمر الوطني، بكل تياراته. حتى الأسماء القليلة التي كانت تُعنى بالملف السياسي أصبحت مجرد واجهة ضمن مجموعتي (أ) و(ب)، تُستخدم في المهام الدبلوماسية والإعلامية فقط، دون أن يكون لأي منها موقع في مركز اتخاذ القرار السياسي.

المجموعة التي تمسك اليوم بزمام السلطة بقيادة علي كرتي وأحمد هارون، وبدعم عشرات من رجال الأمن، تواجهها على الضفة الأخرى مجموعة بقيادة إبراهيم محمود، الذي لا يعدو كونه واجهة لكل من نافع علي نافع، ومحمد عطا، وياسر خضر، وطارق حمزة. وجلّهم من أبناء الأجهزة الأمنية، لم يدخلوا السياسة إلا بعد أن خرج شيخهم من الدولة.

المجموعة الفنية التي نفذت انقلاب ٢٥ أكتوبر على الحكومة الانتقالية، مستفيدة من طموحات البرهان السلطوية، لم ترَ في الانتقالية سوى عدو مطلق. فهي مجموعة جذرية، لا تؤمن بفكرة التسوية أو المساومة، ولا تجد الوقت حتى لالتقاط أنفاسها وتقييم تجربة ثلاثة عقود من الحكم المطلق. بل قفزت مباشرة إلى خنق المرحلة الانتقالية، وأغرت الجنرال الطامع بالانقلاب عليها.

وحين حاصرت الحركة الجماهيرية هذا الانقلاب بأدوات النضال المدني، وكادت أن تستعيد مسار الحكم الديمقراطي، رفضت الحركة الإسلامية، ومعها حزبها المؤتمر الوطني، الهزيمة مجددًا. واتهمت الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع بأنهم عملاء لدول أجنبية، دون أن تشرح كيف يمكن لشعب كامل أن يتحول إلى عملاء، و كيف لشباب غض فتح صدره للرصاص لأجل حلم بوطن أفضل أن يكون عميلا.

قبل اندلاع الحرب في 15 أبريل، عملت الحركة الإسلامية على تعبئة الشارع ضد الاتفاق الإطاري، لكن هذه التعبئة لم تكن سياسية الطابع أو مبنية على تفنيد الوثيقة وبيان مكامن ضعفها. بل كانت تعبئة عسكرية صريحة، مضمّخة بالأناشيد الجهادية. عشرات الفيديوهات كانت تروج لخطابٍ فحواه: “لسنا الأفضل سياسيًا، لكننا أرجل منكم ” هكذا باللفظ . وكان هذا الخطاب موجّهاً مباشرة لشعب السودان الذي رفض حكم المؤتمر الوطني.

ترى المجموعة الفنية أن إشعال الحرب هو الوسيلة الوحيدة لإعادة ترتيب المشهد، عبر فرض منطق البندقية. فالحماية، وفق رؤيتهم، هي الخدمة الوحيدة المطلوبة من الحاكم، ومن لا يحمل السلاح يُقصى من المجال السياسي والإعلامي ويُشيطن. ورغم فاعلية هذه الفرضيات على المدى القصير، إلا أنها ليست وصفة للحكم، ولا إجابة على حاجات الناس داخلياً، ولا على أسئلة السياسة الخارجية.

هذه المجموعة لا ترى نفسها حزباً سياسياً، بل كياناً مدمج في جهاز الدولة الأمنية والعسكرية. لا تملك خطاباً سياسياً، بل تروج لفكرة مفادها أن “البل” هو الحل، وأن الآخرين عملاء. لذلك، فإن أي محاولة للحديث معها لن تفضي إلى نتيجة. فقد رفضت هذه المجموعة فرصًا ثمينة للحل السياسي بعد الثورة، واختارت الانقلاب، ثم رفضت المراجعة بعد هزيمته، واتجهت للحرب. هي مجموعة “صفرية” لا تؤمن بالسياسة، وقامت بتعبئة الموالين لها والمواطنين تحت سيطرتها الجغرافية للاستمرار إذ أن الحرب هي خطابها السياسي.

آخر أفراد الحرس القديم من السياسيين في المؤتمر الوطني يقف خلف الستار، متبعًا فقه ادخار القوة للمعركة، وهو (المتفائل الحذر) كما وصفته هيلدا جونسون في مفاوضات نيفاشا، حين يقرر علي عثمان الخروج للسياسة بأدواتها ، سيكتشف أن المجموعة الفنية قضت على كل فرصة لعودة المؤتمر الوطني إلى المشهد.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.