اخبار السودان

يا ليل أبقالي شاهد: المغني والصوفي

عبد الله علي إبراهيم

عبد الله علي إبراهيم

1
كان الشيخ الفاتح قريب الله، الذي يمتد سنده في الطريقة السمانية إلى الشيخ محمد عبد الكريم السمان، قد تهيأ لقيام الليل حين تناهى إليه صوت شجي من باطن حيه ود نوباوي بأم درمان يغني:
يا ليل أبقالي شاهد
على نار شوقي وجنوني
يا ليل
آه. هذا مكابد آخر لليل مثله. وتبسم الشيخ. ليس منا من لا يدركه الليل. وسأل مريديه بصوت الصوفية الخفيض:
من هذا الذي يغني لليل؟
كرومة سيدنا الشيخ.
صمت الشيخ هوناً. ولما كانت روحه قد ائتلفت مع شقي آخر بالليل قال:
نادوه لي.

2
روى لقاء الصوفي والمغني حسن نجيلة في الجزء الثاني من مأثرته “ملامح من المجتمع السوداني”. وهذا الكتاب أمة وحده وثق للمناشيء الثقافية للوطنية السودانية بأسلوب درامي رشيق لم يفعله قبله كتاب أو بعده. ولا زلت اذكر “لازمة” الكتاب “ويل للشجي من الخلي” تشقق ذاكرة الراوي المجهول قبل أن ينثال بها لنجيلة. وورد مؤخراً أن الراوي كان هو إبراهيم بدري عضو جمعية الاتحاد السوداني في العشرينات التي ضمت خليل فرح (18981932) مغني الوطنية والعشق الفحل. وأبقى فينا الخليل تأوهات ما تريم بوجع الوطن في ذيل أغنية “عازة في هواك” “: “أنا آه أنا آه أنا آه”. وقال الشيخ حسن، ابن الشيخ الفاتح، إنه لم يسمع بالواقعة بين الأسرة.

3
أما المغني فهو عبد الكريم إبراهيم مختار (19101946). واشتهر ب”كرومة” محرفة عن “كرومر”، مندوب بريطانيا السامي في مصر، الذي تمنت والدته أن يكون في شهرته. وكان وسيماً تزين وجه أشراط تسمى “المطارق”. وكان أنيقاً يلبس بدل الاسموكنق والطربوش أو الجلابية بالشال الكشميري. ويحمل عصا لتمام القيافة. وكان رياضياً لعب لفريق الهلال وغنى له :الهلال الهلا”. ولم يشرك بالفن أحداً حتى أنه لم يتزوج. ومات بانفجار القرحة هارباً من المستشفى ليجامل صديقاً في عرسه.

وكرومة هو ذؤابة أغنية عشرينات بندر أم درمان وثلاثيناتها التي عٌرفت مؤخراً ب”الحقيبة”. ثم أمدها بحياة ثانية في الخمسينات صلاح أحمد محمد صالح في برنامجه “حقيبة الفن” بإذاعة أم درمان بث منه اسطوانات سٌجلت منها بمصر. وما تزال الحقيبة هي الغناء بالألف واللام وما عداها غناء. استهوى الناس فيها جزالة شعرها العربية ضمن أشياء أخرى.. قال شاعرها في محاسن حبيبته:
يا بدائع طرفة ويا مغاني زهير
وخمر الحقيبة بابلية:
هي (الحبيبة) اللاعبة بالألباب، ما البابلية
والحقيبة معرض للجناس:
من يوم رماني لحظه السنيني (السنين)
محَّق (أضاع) عليّ نومي وسنيني (السنون).
وتخلقت الحقيبة في أم درمان. وهي مدينة عبر النيل الأبيض من الخرطوم. اخترعها المهدي في 1885 بعد هدمه دولة الترك ومدينتهم، الخرطوم. ولم يرد أن يسكن “مساكن الذين ظلموا أنفسهم”. حتى أنه لما رأي ما غنمه أنصاره من ذهب الخرطوم الظالمة أشاح عنه وصد راجعاً. وقيل إنه لما قرأ في الصلاة مرة: “وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها” انحنى حتى ظنوا أنه سيموت ثم رفع رأسه فإذا لحيته كلها تقطر دموعاً. وتربى المهدي على طريق القوم السمانية قبل ثورته.
وما تزال أحياء أم درمان القديمة تحمل أسماء أمراء المعسكرات القبلية الجهادية التي استوطنتها بعد هزيمة الترك. فحي الشيخ نفسه، ود نوباوي، هو اسم أمير قبيلة بني جرار الأشاوس. ومغازي “موسي ود جَلي”، فارسها الأشم، ملاحم متناقلة.

وما تزال لأم درمان هذه القدسية وتسمى “البقعة” أي البقعة من الأرض التي أختارها المهدي سكناً. وتٌسَمى العاصمة الوطنية اعترافاً بأن عاصمة الإنجليز بالخرطوم عبر النيل باطل. وظل الإنجليز حاقنين على أم درمان التي صعرت خدها بالمهدية ووصفوها بأنها بنت “حضارة الطين” بينما خرطومهم هي “حضارة الأسمنت”. واقسم كتشنر، “فاتح السودان”، بأن يفرغ أم درمان من أفواهها اللامجدية.

4
كان الليل الذي وحد بين الصوفي والمغني موضوع كتاب للدكتور محمد عبد الحي “التقليد وأثر الشعر الإنجليزي والأمريكي في شعر الرومانطيقية العربية” (بالإنجليزية 1982). فقد صار الشاعر بالرومانطيقية رؤوياً ونبياً الليل معاشه ومعاده كالصوفي. فالليل للصوفي (مورد للظلام السرمدي) هو ليل أسرار الخالق، “ظلمات ذاته” كما قال ابن العربي. أما للرومانطيقي فالليل، بعبارة ما، ممتص في ذات الشاعر ليصبح ليل الذهن المبدع. فالليل الرومانطيقي ليل عميق بلا حدود مما قد تنطبق عليه عبارة “الليل المطلق” التي جاء بها جوزيف كونراد.

5
والمغني بالطبع محض ليل وفحل ليل، سلطان العاشقين. ولم يصدق كرومة أن الذي طلبه هو الشيخ. فأرتج عليه فتطوع عمر البنا، المغني وسليل أسرة شاعرة صادحة إلى يومنا هذا، أن يصحبه. وعمر هو الذي قال فيه أخوه الشاعر المعلم إنه ليس بشاعر وإنما “مغنواتي” وانشد:
اثنان يسهران الليل وينامان النهار
الكلب وعمر “الطمبار”
وتساندا حتى بلغا الشيخ فحياهما بلطف وبنفس الصوت الخفيض قال:
سمعتك تنشد عن الليل. أسمعني ا.
وغنى كرومة و”شال” له البنا:
يا ليل أبقالي شاهد
…. . . . .. . .
ياليل صار ليك مٌعاهد
طرفي، اللي منامو زاهد
دا أنا لي سهرك أشاهد (أنا شاهد على سهرك يا ليل)
فوق لي نجمك ظنوني
يا ليل
ولم يزد الشيخ عن قولة: “الله. الله”. ثم خر مغشياً على بساطه من وجد. وتعثر كرومة والبنا وهما يلملمان شعثهما يدلفان إلى ليل آخر . . . ليل العشاق والمغنواتية.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *