إبراهيم هباني

من يتأمل المشهد السوداني اليوم يدرك أن الحرب لم تعد معركة وطنية، بل مشروعاً خاصاً لجماعة سياسية فقدت كل شيء، ولم يبق لها إلا خطاب قديم تحاول إحياءه من تحت ركام الزمن. فالحركة الإسلامية، التي حكمت السودان ثلاثة عقود بعد انقلابها العسكري في يونيو 1989، وانتهى مشروعها بسقوط سلطتها في ديسمبر 2019، عادت اليوم لتقدم نفسها باعتبارها “الوصي” على الحرب و”المرشد” لمسار الدولة، رغم أن البلاد لم تجن من تجربتها سوى الانقسام والدمار.

خطاب الإخوان لم يتغير منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. بل زاد وضوحا وفجاجة “لا هدنة، لا تفاوض، لا سلام”. كل مبادرة تطرح يرفضونها فوراً: منبر جدة، الإيغاد، الاتحاد الإفريقي، المنامة، سويسرا، ثم خطة الرباعية الدولية التي قبلتها قوات الدعم السريع.

وحتى التحذيرات الأميركية عبر مسعد بولس لم تغير شيئا من الموقف. فالإخوان يدركون أن أي هدنة ستفتح باب السياسة، وأن السياسة ستفتح باب العدالة، وأن أول أبواب العدالة هو السؤال الكبير: من أشعل هذه الحرب؟ ومن أدار آلة الانتهاكات منذ 2019 وحتى تاريخ اليوم؟

ولهذا يختبئون خلف حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، ويدفعونها لرفض كل مبادرة، لأن الحرب بالنسبة لهم ليست كارثة… بل فرصة.

فرصة للعودة عبر الفوضى.

فرصة لإعادة التمكين داخل مؤسسات الدولة التي تمددوا فيها منذ اليوم الأول للحرب.

وفرصة لتأجيل المواجهة مع الملفات الثقيلة:

فض الاعتصام، انتهاكات دارفور، فساد العقود الثلاثة، ومحارق السياسة التي تركوها وراءهم.

ويدرك الإخوان أن بلدا مرهقا لن يحاسبهم، وأن شعباً مشغولا بالنزوح واللجوء والنجاة لن يسأل عن الماضي، وأن دولة منشطرة بين دارفور وكردفان والخرطوم لن تجد وقتا لفتح دفاتر الجرائم. ولذلك يرفعون الصوت بالشعارات القديمة

“الحرب الوجودية”، “الكرامة”، “المؤامرة الدولية” …

نفس الخطاب الذي قاد حرب الجنوب إلى الانفصال، ويعاد اليوم بنفس الثقة وبلا أي خجل.

والسودانيون يرون الحقيقة:

الحركة الإسلامية لم تقد الحرب يوما من أجل الوطن، بل من أجل البقاء.

ولم ترفض المبادرات؛ لأنها حريصة على السيادة، بل لأنها تخشى السياسة.

ولم تصنع خطاب التعبئة لأنه وطني، بل لأنه آخر ما تبقى لها من أدوات السيطرة.

ورغم أن الجيش فقد السيطرة على إقليم دارفور كاملاً، وعلى جزء مقدر من كردفان، ورغم استعادة العاصمة الخرطوم لاحقاً، فإن خطاب الإخوان لم يتغير. فهم لا يقرأون الأرض، ولا يسمعون صوت الناس. كل ما يسمعونه هو صدى خطاباتهم القديمة التي لم تعد تقنع أحداً.

السودانيون، في الداخل والخارج، يعلمون أن الحرب ليست قدرا، ولا مفروضة عليهم من السماء.

الحرب قرار.

والسلام قرار.

وما يرفضه الإخوان اليوم ليس مبادرة سياسية، بل حقيقة واحدة:

إن الزمن تجاوزهم، وأن خطابهم لم يعد يصلح لإدارة دولة، ولا لإقناع شعب دفع أثماناً لا تُحتمل.

وفي لحظة كهذه، يعود سؤال خليل فرح، صافيا وبسيطا وجارحا:

يا بلادي… كم فيكِ حاذقٌ (يوقف هذا الخراب؟)

السودان لا يحتاج إلى تعبئة جديدة ولا شعارات مرتفعة، بل إلى عقل واحد يعترف بأن السلام، حتى لو كان ناقصاً، أرحم من حرب فقدت معناها، وخسرت أهدافها، ولم يبق فيها إلا الذين يقتاتون على استمرارها.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.