وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
التقي البشير الماحي
في عام 1947، والسودان على مشارف الاستقلال، طالبت النخب الجنوبية بإقامة نظام فيدرالي يضمن لها مشاركة حقيقية في الحكم ويحول دون سيطرة الشماليين عليه. كان مطلبًا مشروعًا في ظل واقعٍ لم ينل فيه الجنوب نصيبه من التعليم والتنمية، بينما حظي الشمال ببعض المشاريع التي أقامها المستعمر. غير أن النخب الشمالية رفضت الفكرة خشية أن تمهّد الطريق لانفصال الجنوب.
تلك كانت الخطيئة الأولى التي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم. فقد مضى الجنوب بعد بحورٍ من الدماء والدموع، ولم نتعلم من التجربة سوى مزيد من التمرّس في سفك دماء بعضنا البعض. حتى وصلت النار إلى قلب السودان إلى الخرطوم نفسها فصفّق البعض للحرب منذ لحظتها الأولى، وظن آخرون أنها لن تدوم أكثر من ساعات فغادروا بيوتهم على عجل واكتفوا بما خف وزنه معتقدين أنها فقط أيام وتعود الخرطوم إلى ضجيجها.
منهم من صوّرها للناس كأنها أقدس حروبنا مع أن كل علماء الاجتماع قد بيّنوا ماهيّة الحرب وأخلاقها وكما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى منذ قرون:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديثِ المرجمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً
وتضرى إذا ضريتموها فتضرمِ
فتَعْرِكُكم عركَ الرَّحى بثفالِها…
ورغم أن تلك الأبيات قيلت في الجاهلية فإنها تصف بدقة ما عاشه السودانيون على يد عصابات الجنجويد ومن أشعلوا نار الفتنة واستثمروا في دمائنا.
لقد رفضت القوى المدنية الحرب منذ رصاصتها الأولى، لذلك لا مجال للمزايدة بانتهاكات أو انتصارات. فليست الحرب مباراة كرة قدم نفرح فيها بتسجيل الأهداف وتنتهي أشواطها في ميقات معلوم بل مأساة تُخلّف وراءها زوجة مرملة وطفلًا يتيمًا وأسرة فقدت عائلها.
ننتقل فيها من فقرٍ إلى حال أشد فقراً ومن وجعٍ إلى ما هو أوجع بينما يتصافح القادة في نهايتها على فلاش الكاميرات وبريقها وعينهم على سلطة شيدت على جماجم الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ ومن نجا من الشعب أصبح عالة يتكفف غيره.
المصدر: صحيفة التغيير