وقفة في حضرة “اللحظة الأكتوبرية”
محمد محمود
تمرّ بنا الذكرى الستون لثورة أكتوبر والسودان يعيش أوسع انتشار لحربه الأهلية منذ الاستقلال وبعد استقلال الجنوب. إن ما يمكن أن نسميه “اللحظة الأكتوبرية” كان مواجهة بين حكم عسكري وحركة الجماهير المدنية في المراكز الحضرية بقيادة جماهير العاصمة المثلثة انتهت بتنازل العسكريين عن السلطة وانتصار القوى المدنية. إلا أن الديمقراطية الثانية لم تَدُم طويلا وسقطت على يد انقلاب العقيد جعفر نميري في مايو 1969م. وفي مارس / أبريل 1985م كان السودانيون على موعد مع “اللحظة الأكتوبرية” وخرجت الجماهير في ثورتها السلمية الثانية وأسقطت نظام مايو. ودارت الدائرة على الديمقراطية الثالثة عندما قاد العميد عمر البشير انقلابه عليها مسنودا بميليشيا الحركة الإسلامية في يونيو 1989م. وبعد ثلاثين عاما من القهر السياسي والنهب الاقتصادي والفساد المستشري الذي لم يشهد له السودان مثيلا وصل النظام العسكري الإسلامي لنقطة اشتعال صدامه مع “اللحظة الأكتوبرية” في ديسمبر 2018م ، وهو صدام ظلّ مشتعلا ينتشر انتشار النار في الهشيم والجماهير تخرج في كل المدن وفي طليعتهم شبابهم من رجال ونساء وهم يهتفون “حرية ، سلام ، وعدالة” ويهتفون “عائد عائد يا أكتوبر”. وفي أبريل 2019م نجحت الثورة في إزاحة رأس النظام ، إلا أن جسمه ظلّ قائما حتى تمّ استنساخ الرأس عندما قام الفريق عبد الفتاح البرهان بانقلابه في أكتوبر 2021م.
كيف يمكننا أن ننظر “للّحظة الأكتوبرية” على ضوء ما حدث على مدى الستين عاما السابقة وما وصل إليه حالنا الآن؟ إن واقع أن فترة الحكم العسكري قد مثّلت نسبة 80% من هذه الستين عاما يكشف لنا عن جوهر الأزمة. في هذه الفترة ظلّ الوضع التنموي في السودان يتردّى باستمرار على مستوى المقاييس الثلاثة الأساسية لمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة وهي الرعاية الصحية والتعليم ومستوى المعيشة (على ضوء نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي). وحسب آخر تقرير للمؤشر صادر في عام 2022م فإن السودان يندرج تحت قائمة دول التنمية المنخفضة ويحتلّ المرتبة 170 من أصل 193 دولة.
ما الذي أوصل السودان لهذا الدرك؟ لا شك أن الحكومات المدنية لعبت دورها على المستوى السياسي والاقتصادي ، إلا أن الدور الأكبر هو دور الجيش على مستويين : كمؤسسة عسكرية ، وكنظام ينقلب على السلطة المدنية ويمسك بزمام السلطة في فترات الحكم العسكري.
إن الجيش كمؤسسة عسكرية ظلّ يمثل منذ الاستقلال عبئا باهظا على التنمية وهو أمر لا يختلف فيه الوضع السوداني عن الوضع في باقي البلاد النامية. والجيش في السودان لا يختلف عن الجيوش في البلاد النامية التي خضعت للاستعمار في أنه موروث من الفترة الاستعمارية وأن دولة ما بعد الاستعمار تمسّكت به باعتباره صِمام أمان هذه الدولة وحدودها الموروثة. والجيش في السودان ذو وضع خاص لأن البلد دخل في حربه الأهلية الأولى في أغسطس 1955م قبيل الاستقلال في يناير 1956م. وظلّ الجيش في قلب هذه الحرب في مرحلتها الأولى التي انتهت عام 1972م بتوقيع اتفاقية أديس أببا، وفي مرحلتها الثانية منذ عام 1983م إلى عام 2005م عندما تمّ توقيع اتفاقية السلام الشامل. وكانت التسع وثلاثون سنة لحرب الجنوب من أطول الحروب الأهلية في القرن العشرين ، والتقدير أن نحو مليونين ونصف راحوا ضحيتها مما يجعل الجيش السوداني من أكثر إن لم يكن أكثر الجيوش قتلا لمواطنيه.
وإبان فترة الحكم العسكري الإسلامي انفتحت جبهة حرب أخرى هي دارفور. ولأن النظام وجد جيشه منهكا وتخوّف من تكرار فشله في الجنوب لجأ لإنشاء ذراع ارتزاقي يحارب بالوكالة عن الجيش ودخلت قوات الجنجويد مسرحَ المأساة السودانية ليبلغ عدد ضحايا مجازر دارفور ما بين عام 2003م وعام 2014م نحو 300,000 حسب تقديرات الأمم المتحدة (وهو تقدير محافظ في رأي جهات أخرى). وكان تصوّر النظام ومؤسسته العسكرية عندما أخرجت الجنجويد من رَحِمها أن دور المولود الجديد سيقتصر على “الدعم السريع”. إلا أن المولود سرعان ما شبّ عن الطوق وبدأ يرى نفسه ويتصرّف بعد السماح له بدخول العاصمة ومدن أخرى كقوة موازية للجيش. وهكذا وعندما اشتعلت حرب أبريل 2023م فإن الجيش وجد نفسه عاجزا عن حسم المعركة وهزيمة الدعم السريع في الحال كما كان متوقعا. وهناك فرقان أساسيان بين هذه الحرب وحرب الجنوب أو حرب دارفور. إن حروبات الجنوب ودارفور (ومعها حرب الحركة الشعبية شمال في جبال النوبة) هي حروبات تحرّكها قضية قضية الهامش وهو يكافح من أجل التحرّر والانعتاق من قهر المركز، أما الحرب الدائرة الآن فهي حرب بين قوتين مجرمتين تتنافسان على مَن سيفوز بقهر السودانيين ووأد ثورتهم ونهب ثروات البلد.
ولكن ما هو الحلّ؟ إن الحلّ يكمن في تقديرنا في أن تتّحد القوى المدنية المتمسّكة بأهداف الثورة وأن تتّجه بكامل قوتها لأُمِّنا التي ظلت الصفوة الحاكمة تدير لها دوما ظهرها لأفريقيا. إن من مصلحة أفريقيا العليا أن تقف حرب السودان وأن يكون السودان بلدا مستقرا ناميا وقويا. لابد من إقناع أفريقيا ونحن في قلب أكبر مأساة يشهدها تاريخنا أن ترتفع الآن لمسئوليتها الكبرى وتبعث قوة سلام تفرض وقف الحرب على الطرفين وتفرض تشكيل حكومة مدنية تبدأ مسيرة إعادة البناء. ولقد كان لأفريقيا سابقة في مساعدة السودان بالتعاون مع الأمم المتحدة عندما أرسلت بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) والتي تَواصَل عملها من ديسمبر 2007م إلى يونيو 2021م. وكان هدف البعثة هو حفظ الاستقرار في دارفور بغرض حماية المدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية لهم. ورغم أن البعثة لم تنجح نجاحا كاملا في مهماتها وذلك بسبب تقييد نظام الإسلاميين لحركتها ومنعها من التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان إلا أنها حققت نجاحا نسبيا في الحدّ من العنف وتوصيل المساعدات الإنسانية.
إن السودانيين هم من يحلّون مشاكلهم في نهاية الأمر إلا أن هذا لا يعني أنهم لا يحتاجون لمساعدة الآخرين وخاصة في الظروف الاستثنائية. إن الأمل الكبير أن تدرك أفريقيا أن هذه هي اللحظة التي لابد أن تساعد فيها السودان وأن تدرك من وراء ذلك الخطر الذي يتهدّدها إذا تركت السودان يواجه مصير الانهيار الكامل للدولة والتشظّي والتفتت.
إن نظر القوى المدنية المتمسّكة بأهداف الثورة التي ستعيد بناء السودان سيكون دوما معلقا بأفق “اللحظة الأكتوبرية” وبشعارات شباب ثورة ديسمبر المجيدة وهم يهتفون “حرية ، سلام ، وعدالة”. إن معاناة واقع اليوم بكل آلامه ومراراته ستزيد السودانيين عزما وإصرارا على السير في درب “لا للحرب ، نعم للسلام” سيسيرون وهم ينشدون: “من غيرُنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير ، من غيرُنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة”.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة