اخبار السودان

وسامة عبدالخالق محجوب السياسية: جريرة الجزيرة وثأر البحيرات

عبد الله علي ابراهيم

اكتنف موت أستاذنا المرحوم عبد الخالق محجوب ملابسات سياسية تكتيكية من العنف الانقلابي المضاد، والانكسار السياسي والاجتماعي، جعلت أكثر الاهتمام به يتجه إلى أسئلة تريد فض ألغاز وخفايا تلك الملابسات. وهي أسئلة مشروعة وواجبة. فلا سبيل إلى العلم بتاريخ الرجل أو بتاريخنا بغير معرفة مدى تورط عبد الخالق والحزب الشيوعي في انقلاب 19 يوليو ذي العواقب الوخيمة. ولن يهدأ خاطر حسنيِّ النية من كل فج بغير بيان مقنع حول سلامة عقيدة عبد الخالق في المنهج الانقلابي الذي كان زكى لنا معارضته أول قيام البكباشي جعفر محمد نميري بانقلابه في مايو 1969. وقد بدا للناس أن أستاذنا لا يعارض الانقلاب إذا قام به شيوعيون “صرف” من مثل انقلاب 19 يوليو.

وهذه أسئلة يراها الناس طاعنة في مبدئية الرجل ومصداقيته. وقد فاقم من حرج هذه الأسئلة أن أكثر تاريخ الرجل بعد موته مما كتبه خصومه الذين استولوا على الميكرفون في عبارة مناسبة اشتكى فيها الرئيس كلينتون من جور الجمهوريين الذين خلفوه في الحكم، وراحوا يُذيعون عنه ما أرادوا. ومما زاد الطين بلة أن حزب عبد الخالق الشيوعي نفسه قد اختلط عليه الأمر بشأن تلك الملابسات التي أدت إلى قتل صاحبهم. وحار في الأمر حيرة عامة الناس وخاصتهم. وضرباً للمثل: فلم يفتح الله على الحزب ببيان للناس عن ملابسات انقلاب 19 يوليو إلا في عام 1996، بعد ربع قرن من وقوع الانقلاب. وهي فترة كافية لتستشري المعرفة المغرضة بالمرحوم عبر ميكرفونات خصومه الذين تعاقبوا على الحكم.

لن تصلح سيرة هذا الرجل المجاهد بمجرد دفع الافتراءات عنه. والخطة المثلى لاسترداد بهائه هو أن نخرج به من نفق وأضابير خاتمة حياته التراجيدية، وكيد خصومه، وتضاؤل أنصاره. والسبيل إلى ذلك هو توسيع نظرنا إليه كقائد لحركة تغيير اجتماعي ناهضة ذكية نحو العدالة الاجتماعية. وقد وقعت حركته في سياق قرن الجماهير، القرن العشرين، وهبَّاته الثورية الكثيفة. وقد أصاب تلك الهبَّات ما أصابنا. ومنها من لم يرتكب انقلاباً أو انقلاباً مضاداً. فقد تعددت أسباب اغتيال حركات العدالة الاجتماعية والموت واحد.

يحاول علم الحركات الاجتماعية على أيامنا هذه استنفاذ هذه الحركات، التي قصدت التغيير الاجتماعي، من أن تدفن نهائياً في ركام أخطائها المختلفة صغيرها وكبيرها. فإن تم إسدال الستار على مغازي وأهمية تلك الحركات على النحو اللئيم الذي نراه فستنحرم تيارات الاحتجاج الاجتماعي المعاصرة من عِبر حركات مثل التي قادها عبد الخالق وغيره واعتبارها.

من نافلة القول إن “كَسرة” (والمصطلح من أدب الثورة المهدية التي يقال لعام هزيمتها على يد الإنجليز في 1898 أنه “سنة الكَسرة”) حركات التغيير الاجتماعي أمر دارج ومعلوم في التاريخ. ويقول منظرو علم الحركات الاجتماعية إن هذه الحركات تفشل بالطبع لعاهة في نظرها وفعلها. غير أنهم يسارعون بالقول إن أكثر فشلها يأتي مع ذلك من فرط قسوة العادات الاجتماعية والسياسية المحافظة لمجتمعاتها والشروط التاريخية المخصوصة التي حفَّت بنشاطها.

ولن تغتني معرفة الناس ب”الوجود المغاير” (التجاني يوسف بشير) الذي يريدونه لأنفسهم بالمرابطة عند الأسئلة المثارة عن عاهة هذه الحركات، وكيف جنت على نفسها مثل براقش، أو كيف سار قادتها إلى حتفهم بظلفهم.

الذي سيمكث ويفيد من فعل عبد الخالق في عصره أن ننفذ إلى الرؤى والأحلام التي غذت سيرته وحركته في أول أمره إذا أردنا لشباب أيامنا هذه أن يعتنق أحلامه السوية بالوجود المغاير ويلتزم بها. والمعلوم أن طاقة هؤلاء الشباب للحلم الاجتماعي فارغة.

والفارغة لا يملأها إلا شيطان السوق والاستهلاك وشهوة التملك. فمهما قلنا عن جناية حركات التغيير الاجتماعي على نفسها فإننا لا ننكر أنها قد أبقت في عاقبتها بين الناس أثراً من رؤيتها. وفي هذا الأثر شفرة ما كان يرجوه الجيل لوطنه وشعبه ولسواد الناس منهم. وقال أحد منظري علم الحركات الاجتماعية إنك إذا نضوت عن هذه الحركات ثيابها حتى بلغت نواتها، ونفذت إلى الرغائب الجمعية التي استترت في جوهرها، فستجد أن الحرية والحب هما أصل المسألة.

لربما ارتكبت تلك الحركات أخطاء قادتها إلى حتفها بظلفها. وكانت بعض تلك الأخطاء جسيماً بحق. ولكن ما ضرب هذه الحركات في مقتل هو قسوة العادات الاجتماعية والسياسية المحافظة التي نهضت لتغييرها للأفضل. وليس هزائم تلك الحركات هو موت الحلم فجوهرها، وهو طلب الحب والحرية، ماكث في الأرض وبين الناس.

فلربما مات عبد الخالق في طيات ملابسات استعجل فيها أو أخطأ. وهذا موت واحد من سبل الموت العديدة التي تلقى راكب الصعب مثله. فجريمة المرحوم الشماء حقاً، في قول المفكر الإيراني على شريعتي عن صوفي شهيد، هي الوعي والحساسية وتقحم أمهات الأمور بالفكر. وقال شريعتي أيضاً إن علو الهمة وحذاقة الفؤاد خطايا لا تغتفر في مجتمع الجاهلين. واستعنت من بعد شريعتي ببوذا الذي قال إن مجتمع البحيرات لن يغفر للجزيرة أنها من طين وهو من ماء. وسيظل يرشقها بالماء حتى تغرق.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *