ورحلتْ الإنسانيّة
دنيا دبنقا
نور الدين بريمة
(يا أمّنا الحنُونة .. هَاكِ ليكٍ جُغمة .. ومَلْوة هِنْ صَلابة) ، هكذا كان يتغنى الحالمون بوطن آمن ومستقر وسالم في مدن دارفور الجميلة ، وبقية المدن السودانيّة ، سيما أهلنا في نيالا البحير، عندما يتسامرون ويُرخون أسماعهم لشادي الكلم الطيب ، والنغم الشجيّ لمّا ينداح صوته قويًا ، وهو يتلو قصائده في : منتدياتها ، محافلها ومجالسها ، وهي تنساب عطرًا زكيًا ونفحة جماليّة في الوئام والمحبّة.
ولمّا نسترجع ذاكرتنا إلى ما قبل الحرب قليلاً ، نستدرك أننا كنا دومًا في نيالا الساحرة ، نمارس سلطتنا الثقافيّة سلطة ظل يحييها فينا ويحثنا عليها ، الراحل المقيم آدم عبد الكريم دقاش ، طيب الله ثراه ، والذي أظلّنا بحِكمه ، فُكاهاته ، مُلحه وطرائفه ، معالجًا خلالها المشكلات والخلافات ، وزارعًا القيم الفاضلة ، عبر برنامجه (تبريق ورمباي) الذي يمثل هاتفًا بيئيًا ، يعبّر عن المعاني والمثل الدارفوريّة .. ويمثل مُتحفًا وتراثًا لأهل دارفور ، في الحل والعقد يعالجون عبره مشاكلهم وأزماتهم!!.
إبتدرت مقالي ببيت شعر من قصيدة (أروى) ، سمّى بها شاعرنا الأستاذ محمد خير الخولاني ، أحد دواوينه ، ولم تزل معشوقته منحوتة في الذاكرة ، ولكأنّي أسمعه مناجيًا إيّاها : (عقاب يا أروى أسقيك .. أبل إحساسي وأرويك .. وترفضي بي دمعاتي تتوضّي .. الخ) فيجبرك صوته على أن (ترخي) السمع للقول ، وتتابع كلماته ، وهو يحيطك بحزمه ومفرداته البدويّة والريفيّة ، التي تمتاز بها قريحته الشعريّة ، فصارت شعلة تضيؤ القيم من البواكي والإندثار ، وتعززها وسط الأجيال.
بيد أن هذه الحرب اللعينة التي ما زالت رحاها تدور في فلكها ، مما أجبرت الكثيرين من العظماء ، أمثال الخولاني إلى النزوح واللجوء ، تاركين مراتع صباهم وأحلامهم ، فكان خيار الخولاني إلى مدينة الزنتان الليبيّة ، إلا أن أمر الله قد أزف ، فوافته المنيّة بها، فنزل علينا خبر وفاته على حين غرة كالصاعقة ، لكنها مشيئة الله وأقداره ، وبموته فقدنا معينه العذب ، وصوته الصادح ، وكلماته المحشودة بالمفردة المحليّة الجزلة المُموسقة ، المعطونة بالحب والجمال ، تدعوا في مضامينها إلى الحب والسلام ، وبغيابه فقد أصبحنا في أمس الحاجة إلى الإرتواء من تلك القيم ، وأن (نجغم ملاوي) من الصلابة ، لنتجاوز بها الفقد الجلل.
لأن جُغمة الملوة أي الرشفة الواحدة لمكيال الصلابة لا تكفينا بالتأكيد لتجاوز ما نحن فيه الآن ، وبالتالي دعونا نستلهم المواعظ والعِبر من هذا الوادي المُنساب دفئًا وحنانًا وحبورًا ، وهو المتدفق رحمة وإنسانيّة، لعلّها قد تنسينا ضنك الحياة ومآسيها ، وتلهمنا قوّة ومنعة ، للراحة والإستجمام ، ثم التعافي من هذا الرهق ، التشظي ، الإنحطاط ، الصراعات والحروب ، التي لازمت بلادنا منذ نطفتها الأولى أي منذ أمد بعيد مثلما نرفع أكفنا صادقين بأن قصائده، ستظل مصدر إلهام لنا للتشافي من تلك الأسقام والأورام.
لأننا أكثر إحتياجًا لشاعريّة هذا الخولاني المليئ بالإنسانيّة ، وحبه الفرّادي لوطنه وإنسانه ، والذي قال في قصيدة أخرى له (الريدة كان بالدور .. أول بريد أمّي .. وبتّان بريد نيالا) ، بالله عليكم أنظروا إلى هذه الوطنيّة ، الإنسانيّة والإحسان ، فالخولاني الذي عرفناه ، ظل ممسكًا بقيمها ، ومنداحًا بيننا حبًا وسلامًا، ولم يبرح قناعاته هذه ، مؤكدًا بأن الثقافة هي التي تقود الحياة ، على الرغم من نرجسيّة وإستعلائيّة النخبة الحاكمة ، علاوة على معاداتها للوعي والإستنارة ، وصدها لكل من يجرؤ على إتباعها والسير على طريقها المفروش بالأشواك.
فالخولاني ومن سار على دربه من دعاة الخير والجمال ، لم ينقطع مدادهم من حث الناس وحضهم على التحابب لا التباغض ، وعلى السلام لا الإحتراب ، وعلى الإنتاج لا الخراب والدمار، نسأل الحي القيوم بأن يلهمنا الصبر والسلوان وحسن العزاء في مصابنا هذا ، وندعوه تعالى بأن يظل ميراثه نذرًا وديْنًا علينا ، حتى نوفي به قدرًا من التعايش والسلام والوئام ، ونرجوه أيضًا بأن يُنزل على فقيدنا الحبيب الأريب السكينة والغفران.
وأن يبدله أهلاً خيرًا من أهله ودارًا خيرًا من داره ، ويجعل المحبة بين أبنائه وأحبابه وأصدقائه ، كما نأمل جاهدين أن يشدّوا وثاق محبتهم بينهم، ويعملوا على أن ترى مُنجزاته الشعريّة نورًا على السطور والصدور، سيما وأنه كان يحدوه الأمل في تحقيق هذا الحلم ، وإخراج أسفاره ، دواوين تسوح فيها الأجيال ، وتتكؤ على قيمها ومعانيها تعايشًا ، لأن المعاناة وشغف العيش وضيق اليد ، لم تسعفانه من ذلك ، بل حرمته من معانقة الأجيال لأسفاره ، حتى إنتقلت روحه الطاهرة الزكيّّة إلى بارئها الحي القيّوم ستّار العيوب غفّار الذنوب.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة