
وثبة محمد بن سلمان.. تنهي اللعبة في السودان
أحمد عثمان جبريل
ثمة لحظات في التاريخ لا تأتي كخُطى معتادة، بل كوثبات تُعيد تشكيل الخرائط وتكسر الأوهام وتعلن أن زمناً كاملاً قد انقضى.. وهذا ما فعله سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، في الملف السوداني، فوثبته تلك إن جاز لنا أن نسميها (وثبة) وهي كذلك، لأنها ليست مبادرة عابرة ولا خطوة تكتيكية، بل لحظة من هذا النوع.. لحظة رفعت السقف وأغلقت أبواب المناورة، وكسرت ظهر اللعبة التي ظلت الحركة الإسلامية تتنفس من خلالها.. وما إن التقطها ترامب وأطلقها هو بدوره، حتى بدا أن البلد الذي صُلب على سنوات الدم، يلتقط أنفاسه للمرة الأولى.
يقول الفيلسوف عبد الرحمن بدوي في ساعة مواجهة: “حين تنغلق دائرة الصراع، لا يبقى للخصم إلا أن يواجه الحقيقة أو يتلاشى في عتمته”. وهذه هي اللحظة ذاتها التي وجد الإسلاميون أنفسهم عُراة أمامها.
1
منذ أن هبط صوت ترامب في حواره الأخير متحدثاً عن السودان، اندفعت الأبواق الإسلاموية تصنع ضجيجا فارغاً، متوهمة أن جملته العابرة حول عدم معرفته بالملف السوداني أو السودان نفسه، يمكن أن تُربك الرباعية أو تهدم شهور العمل في الرياض وواشنطن.. لكنهم نسواـ أو تجاهلواـ أن هذا هو ترامب نفسه، الرجل الذي يحوّل البساطة إلى سلاح، ويجري وراء الفكرة التي يختارها هو لا التي ينتظرها الآخرون.. لم يكن حديثه انسحاباً من المشهد، بل توقيعا على تحول المسار؛ وهذا ما فهمته العواصم الحقيقية، وفشلت الأبواق في التقاطه.
2
حين ظهرت وثبة الأمير محمد بن سلمان، لم يكن الشعب السوداني بحاجة لشرح أو تحليل.. تلقاها الناس كما تتلقى الانفراجة بعد طول احتضار؛ كعيد يفتح الباب لسلام طال انتظاره.. كانت الكلمات تتوهج كأنها تحمل وعداً بعودة الحياة، وكانت المدن تهمس: “ها هي قبضة الموت ترتخي”.. هذا الاستقبال الشعبي كان وحده كافيا ليقول للإسلاميين إن الشارع لم يعد لهم، وإن زمن الشحن والتخويف قد انتهى.
3
عرفت الحركة الإسلامية منذ لحظتها الأولى أن الوثبة السعودية ليست مناورة ولا محاولة جس نبض.. كانت ضربة تُوقف كل العبث الدائر منذ سنوات، وتُسقط كل محاولات البرهان وإخوانه لإطالة زمن الفوضى.. ولهذا تحرك علي كرتي بإيقاع مرتجف يشبه ردة الفعل لا الفعل، محاولا تقديم بيان يبدو واثقاً وهو يرتجف من الداخل.. كان يمد يده في الهواء ليتأكد هل ما تزال العاصفة تهب أم توقفت؛ لكنه وجدها أقوى مما توقع.
4
بيان كرتي لم يكن موقفًا سياسياً، بل محاولة بحث عن منفذ في جدار سُد بالكامل.. كان يعرف أن اللعبة اقتربت من نهايتها، وأن الهجمة السعودية‑الأميركية لم تترك للحركة الإسلامية غير خيار الانزواء.. لم يعد هناك مكان للمساومات ولا للهروب عبر ممرات الجيش، أو مؤسسات الدولة.. كل ذلك انتهى دفعة واحدة، وبالقلم ذاته الذي وقع به الأمير.
5
المفارقة أن الأبواق التي ظلت تسخر من مساعي الرباعية، لم تدرك في أي لحظة أن واشنطن والرياض كانتا تتحركان بخطين متوازيين: “خط سياسي يدار بهدوء، وخط ضاغط يعرف متى يكشف قوته.. وحين جاء صوت ترامب، أدرك المتابعون أن التحول ليس فقط ممكنًا، بل وشيكًا.. في لحظتها سقطت حجج التيارات الإسلاموية التي ظلت تتعامى عن كل ما يحدث خارج غرفها المغلقة.
6
الوثبة السعودية لم تُنهِ فقط مناورات الداخل، بل كشفت هشاشة الذين ظلوا يدّعون القوة. فقد تبيّن أن الحركة الإسلامية التي كانت تتفاخر بأنها “تملك مفاتيح الملعب” لم تكن تملك شيئًا.. بمجرد أن دخلت الرياض على الخط بوثبة واضحة، وعززتها واشنطن بإشارة ترامب، ظهر جلياً أن الإسلاميين كانوا يقفون فوق رمال، لا فوق أرض ثابتة. لم يعد في أيديهم سوى الصراخ.
7
الشارع السوداني التقط الرسالة قبل السياسيين.. شعر السودانيون أن ما جرى ليس بيانًا دبلوماسياً، بل إعلان نهاية مرحلة.. ولعل أجمل ما في هذه اللحظة أنها أعادت للناس الحلم بأن السودان يمكن أن يعيش بلا وصاية من أي جهة إسلاميين أو غيرهم، بلا حروبهم، وبلا ذلك العبث الذي حوّل دولة كاملة إلى ساحة مفتوحة للدم.. ولكن الآن رأى الناس الضوء، وفتحوا أعينهم له.
8
لقد بدأ واضحاً أن الرباعية التي حاول البعض التقليل من شأنها، خرجت من صمتها بثقة.. فمبعوث الرئيس الأميركي، مسعد بولس، لم يعد يتعامل مع الملف كمعضلة تبحث عن بداية، بل كصفقة اقتربت من نهايتها.. وما قدمته السعودية من دفع سياسي كان كافيا ليحوّل الملف من منطقة “التخمين” إلى منطقة “القرار”. ولذا جاء وقع (الوثبة) كأنه ضربة النهاية في لعبة طالت أكثر مما يجب.
9
وبهذا كله يمكن القول بلا مواربة: اللعبة انتهت. Game” Over” كما يحب أن يسميها العالم الذي يفهم السياسة بلا رتوش.. الحركة الإسلامية يمكنها أن تصرخ، أن تكتب، أن تتوهم أن لديها ما ترد به.. لكنها تعرف، في أعماقها، أنها خرجت من الملعب.. وأن (الوثبة) السعودية‑الأميركية لم تترك لها سوى أن تلملم ما تبقى من أطرافها، وتنسحب إلى الظل الذي خرجت منه.. أما السودان، فها هو يفتح صفحته الجديدة، مستندًا إلى دفعة غير مسبوقة نحو سلام ينتظره الملايين. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير
