
بثينة تروس
بينما تتواصل الحرب اللعينة، تتجدد عسكرة النساء واستمرار المأساة، تتسارع أمام أعيننا تجسيد النموذج الليبي دون ابطاء، في ظل غفلة المناصرين لكل طرف من أطراف الصراع. تفكك الدولة أصبح يتعمق يوماً بعد يوم، وسط نزاع مرير حول الشرعية والسلطة، فيما تسهم التدخلات الخارجية في تحويل هذا الصراع إلى مخرجات حرب لا خير يُرجى منها للشعب السوداني. نشهد ذات الخداع والاستهبال يتكرر بين قيادات الطرفين. في الوقت الذي يتحدث فيه السيد بن السيد إبراهيم الميرغني عن تخريج أول دفعة من أبناء وبنات حكومة تأسيس في محاربة دولة 56 بقيادة نخبها! تنتشر في الميديا مقاطع فيديوهات لفتيات يرتدين أزياءً عسكرية متقنة تحت راية الدعم السريع. لو صُرفت الأموال التي أُنفقت على تلك الأزياء لإطعام الجوعى في الفاشر، لكان ذلك نصراً حقيقياً للمهمشين، بدلًا من محاكاة تجربة أخوات نسيبة وتكرار سياسات نظام الكيزان، حافراً على حافر، في تعبئة النساء لخدمة الأجندات القتالية. إن ما يجري اليوم يعد امتداد مباشر لمشروع الكيزان، حيث تستمر العقلية نفسها في استغلالهن كوقود في معارك السلطة وفرض الهيمنة. نفس الذي يجري بحكومة بورتسودان، تحويلهن إلى أدوات بروباغندا حرب ذكورية، وتحريض قدراتهن في صراعات لا ناقة لهن فيها ولا جمل، فبين (أم قرون) في الغرب و(بت الملوك) في الشمال، يعاد تدوير ذات المشروع العنصري الكريه، الذي بدأ بفصل الجنوب ويستكمل اليوم بمحاولات لفصل دارفور.
ومشروع التجنيد والتجييش النسوي من الطرفين لا يستهدف النساء فقط كضحايا تقام الحرب على اجسادهن، بل يحولهن إلى أدوات في إذلال بعضهن البعض، تحت شعارات زائفة عن الشرف والكرامة والنقاء العرقي، أو مطلوب البحث عن العدالة والمواطنة المتساوية، إنه إعادة إنتاج للتمييز والعنصرية، لكن هذه المرة باستخدام النساء تحت لا فتات جديدة. فمنذ وصول الحركة الإسلامية إلى السلطة في 89، والنساء في السودان يستخدمن في مشاريع السلطة كأدوات للقمع والهيمنة، من حملات ترصد وإرهاب أخوات نسيبة في الجامعات وملاحقة الطالبات، إلى استخدام قوانين النظام العام لإذلال النساء بتهم الخروج عن الآداب وتحدي السلطة الدينية، بينما يُغض الطرف عن فساد المال العام والتعدي على حقوق الدولة والمجتمعات.
لقد نادى المشروع الكيزاني بتحكيم الشريعة الاسلامية، لكنه لم يطبقها إلا في اضطهاد النساء، عبر قوانين الأحوال الشخصية المهينة، بينما تساهل مع سرقات الأوقاف والزكاة، ومنظمات الدعوة الإسلامية، وشرعن التحلل لمن نهب المال العام. بل وصل الأمر إلى حد إعفاء منتسبيه من جرائم الاغتصابات، في واحدة من أفظع صور الانهيار الأخلاقي والإنساني. اليوم، يتم تكرار ذات المأساة، فالجيش والدعم السريع وميلشياتهم يتسابقون في استغلال النساء في الدعاية الحربية. يكفي انه كان نصيب النساء من هذه الحرب هو الأكبر. فقدن بيوتهن، حيواتهن، وكرامتهن، تشتت أسرهن، شبابهن، ازواجهن، أصبحن هائمات علي وجوههن، لاجئات بحثا عن الامن والعيش الكريم، وهن ما زلن على قيد الحياة كالأموات. لذا، نرفض وندين محاولات عسكرة المرأة وتجييشها، ونستهجن تبرير ذلك بحجج الدفاع عن النفس أو الأمن، او بسط الامن في خضم المعارك. فهذه ليست سوى أدوات لإطالة عمر الحرب، والأخطر من ذلك تعميق الجراحات بين نساء الوطن الواحد، تلك التي لا يتوقف نزيفها ولا تلتئم وان توقفت الحرب.
إن ما يجري اليوم في الوطن من اقحام للنساء واستغلال لطاقاتهن في معارك لا تخصهن، ليس سوى استمرار لمأساة طويلة بعمر 35 عام، لقد آن الأوان لرفض تطويع النساء في آليات العنف السياسي التي لا تخدم سوى طلاب السلطة. آن الأوان لإدانة كل من يرفع شعارات التحرير ويمارس في الخفاء أدوات الاستعباد. فحقوق المرأة ليست زياً عسكرية، سواء كانت بزي اخوات نسيبة او الدعم السريع، ولا شعارا أيديولوجياً يوظف تارة لحماية الدين واخري للعلمانية، بل هي جوهر أي مشروع حقيقي للعدالة والمواطنة، ولا تنال هذه الحقوق بدور الحكامات، وحمل السلاح والتهليل والتكبير، بل بالأدوات السلمية والمدنية، وبنشر الوعي بثقافة السلام وتوجيه المناهج التربوية بقيمة المساواة الاجتماعية، كما فعلت الحركة النسوية السودانية في مسيرتها الطويلة، التي حققت بها مكتسبات جعلت السودانيات في وقت من الأوقات في طليعة نساء العالم العربي والمحيط الإسلامي والافريقي.
المصدر: صحيفة التغيير