وان ماتت عشة فستظل عايشة الي ابد الابدين في قلوب المحبين
د. حافظ عباس قاسم
كعادته كعادتها وفي صمت ومن غير ضوضاء غادرت دنيانا قبل عدة ايام عشة احمد الشيخ الشفيع . ولرحمته اراد لها الله ان تعود الي شندي بسبب الحرب لتموت فيها ولتدفن بالقرب من والديها بعد ان عاشت في الخرطوم سنينا عددا ، ولحكمته اراد لها ان تشهد موت جميع اخوانها واخواتها الاكبر منها والاصغر ليسبقوها الي الدار الاخرة وليكونوا في حفظ الله ورعايته. ولتلحق بهم فيما بعد . ولما ناداها المنادي صعدت الي بارئها راضية مرضية بروحها السمحة والمتسامحة وذات الوجه البشوش والقلب الطيب والنفس المطمئنة والروح النقية . اول شئ عرفته عنها انها كانت اول من يصحو في البيت واخر من ينوم . وانها في صحوها كانت كما النحلة في حالة عمل دائم وحركة دؤوبة . وحتي في نومها فقد كان ما بين النوم والصحيان وفي حالة يقظة وترقب . لانها قد اعتادت ان تكون دوما في حالة استعداد لمقابلة الطوارئ والقيام بالواجب . وانها كانت كما الفراشة تطوف وتحط علي الازهار جميعها دون فرز او تمييز ولا تستثني حتي ذات الاشواك والتي من المحتمل ان تخدشها بشوكها وتؤذيها . الشى الذي يعني انها كانت متصالحة مع نفسها ومع الاخرين .
والله علي ما اقول شهيد انني لم ارها في حياتها ولو بالصدفة او للحظة في حالة غضب من احد او ضجر من امر او تعب من العمل او اعياء من الخدمة. واشهد السنوات التي عشتها معها وقضيتها بالقرب منها ، انني لم ارها شاكية من احد او امر او غاضبة من شخص او شئ او حتي متوعكة من علة او مرض او لازمة للعنقريب بسب الاجهاد والتعب او الاعياء والمرض . وتفسير ذلك بالنسبة لي ان الله قد خصها بخصائص للتعامل مع مختلف مخلوقاته من الحيوان والبشر والحجر والشجر ، وانه قد سخرها لخدمة الناس والجار ذي القربي والجار الجنب، وانها تحمل من خصائص الملائكة اكثر ما تحمل من خصال البشر.
وهي وان كانت قليلة الكلام وشحيحة في كلماتها ، الا انه وفي تكامل وتفاعل كل من صمتها ورشاقة حركتها وهمتها الكثير من الكلام والمعاني .
ولكأنها تقول البيان بالعمل وما بالنضم..
كانت انسانة بسيطة ومتواضعة الي ابعد الحدود وتتميز بالوجه الصبوح والابتسامة الدائمة وكانت ملائكية الوجه والروح وحسنة السيرة والسريرة . ليس ذلك فحسب فقد كانت ايضا انسانه تشع بالبراءة وانسانة حنونة وعطوفة . وعن براءتها اتذكر ضحكاتها البريئة عند مداعبتي لها ببعض مداعباتنا الخاصة ، عندما كانت تأتي الي البئر في الحوش الذي اسكن فيه لنشل الماء ايام اعتماد سكان شندي علي مياه الابار ومياه النيل ، وذلك عند نفاذ الماء في البيت لكثرة الاستهلاك ، الشئ استدعي سعايتهم لحمار ضخم وتشغيل شخص لاحضار الماء يوميا من البحر (بالبل) بضم الباء الثانية. اما عن عطفها وحنيتها فلن انسي تطبيبها لجراحي العميقة والمتعددة وتنظيفها من التقيح لفترة من الزمن من جراء سقوطي ليلا وانا عائد من المذاكرة الليلية بالمدرسة في احدي حفريات انزال المواسير والخراطيم لامداد المدينة بالمياه النقيه وذلك من جراء الظلام الدامس . وبالرغم من انني لم ارتبط بها بعلاقات الدم ووشائج القربي ، مع انها قد تعهدت اخونا الاصغر ابن اختها المرحومة بالعناية وهو رضيع وتربيته هو واخوهو واخواته حتي كبروا ، الا انني كنت اشعر دائما ان بيننا احاسيس ومشاعر عميقة وقوية وان علاقتي بها هي من النوع الخاص والغامض حتي بالنسبة لي ، والي درجة انني لا استطيع ان اصورها او اصفها او ان اعبر عنها بالكتابة او الكلمات او القول ، لانها لم تكن علاقة بين الابدان والاجساد ولكن كانت علاقة في الدواخل وبين الارواح ، ومن ثم فلن ولا يمكن للشخص ان يدرك كنهها او يعرف معناها . لأ نه امر رباني .
وللحقيقة ان قلبها كان دائما وابدا دليلها وهاديها . وصحيح انه لم ينالها اي حظ من التعليم وذلك انها ومنذ الصغر كانت قد سخرت للخدمة المنزلية ، فكرست كل وقتها وجهدها وحياتها لخدمة اهل البيت وضيوفه وما اكثرهم (بالمناسبة ابواب بيتهم كانت دائما وابدا مفتوحة علي مصراعيها ليلا ونهارا للغاشي والداني . وبالبيت مضيفة للقادمين من الاقاليم ممن ياتون لقضاء حوائجهم لدي مؤسسات الحكومة وفي مركز شندي .، وايضا به غرفة لايواء طلاب المناطق المجاورة لمن لم يحظو بالسكن الداخلي في مدارس المدينة ، ومن ثم كان كل ذلك العبء في الحقيقة يقع علي كاهلها) . والحق يقال إنها كانت فقيرة الي ربها وفي نفسها وانها لم تشغل نفسها في يوم من الايام بما اعتاد عليه عموم الناس من النميمة والقطيعة والتسلط والتنمر ، اوببهرج وزينة الحياة الدنيا وملذاتها وملاهيها.
ولأن المثل السوداني يقول ان داير تشوف فاطنة في البيت فشوف محمد في السوق . فان انت اردت ان تعرف شيئا عن عشة كانسانة وعن شخصيتها وعلاقتها مع الاشياء وتعاملها مع الاحياء ، فلك في شقيقها الاكبر الشفيع احمد الشيخ وفي سيرته سوي في ورش عطبرة وساحات العمل السياسي والنضالي او في علاقاته ومواقفه الانسانية صورة محورة او مصغرة منها. وكما استشهد شقيقها من اجل الحقوق والوطن والكادحين فقد كانت عشة شهيدة الواجب وخدمة الناس والمجهود التطوعي والانساني ، فقد كانت تعمل من غير من ولا اذي ، وان كل حياتها وكدها كانتا تجردا ونكران ذات . هذا وان كانت (عاش الشعب وعاشت الطبقة العاملة) هي اخر الكلمات علي لسان الشفيع وهو في طريقه الي المشنقة فان حبه لعشة وحسرته علي فراقها قد كان بالتأكيد اخر احاسيسه ومشاعره حينما كانت روحه تصعد الي بارئها ، وذلك لانني اعرف ان حبه لها كان يشغل حيزا كبيرا في قلبه ، واكاد اجزم ان مساحته كانت هي الاكبر مقارنة مع المساحة المخصصة لزوجته العظيمة وولده الوحيد . اما هي وفي طريقها لملاقاة خالقها فالبتأكيد كانت وفي عميق اعماقها واثقة لحد الامتلاء والتشبع من ان الله لا يضيع اجر من احسن عملا .
وانا هنا وفي وداعك اهديك هذه الكلمات النابعة من صميم القلب والفؤاد وهي كل ما يمكنني ان امنحه لك وانت الان في دنياك الباقية مع مليك مقتدر وفي رفقة الشهداء والصديقين .هذا وان غيبك الموت جسدا فستكونين دائما حاضرة في قلوب من احبوك ومن يعرفون قدرك . ، وان بكوك هم بالدموع وودعوك بالنواح والعويل ، فانا وفي خلوتي ساودعك وفي صمت بالصلاة والابتهال والدعاء ، اذ نني اشعر وكأن شرخا كبيرا قد اصاب روحي وان شيئا عزيزا قد اقتطع وانتزع من دواخلي ، وأن فراغا كبيرا قد خيم على قلبي ضاغطا علي نفسي ويكاد يخنقني .
وبالرغم من اننا محزونون لفراقك الا اننا يمكن ان نجد بعض المواساة في كلمات شاعر الشعب محجوب شريف ومع بعض التحوير (( الموت))
((ماهو الموت . والناس هي اللي بتقرر مين الميت ومين الحي ))…. واخيرا ولانها كانت شخصية غير عادية وانسانة فريدة ، و فيها من الخصائل والصفات مما يقربها من الفقرا والصالحين فسيضحي قبرها ضريحا للمريدين وللمقيمين ومزارا للقادمين والغادين والرايحين والجايين .
اما في الختام فنسالك اللهم وعشة بت احمد افندي الشيخ والتي لا نزكيها لك هي الان بين يديك ، ان تصلي وتبارك عليها . ونسالك ان تكرم مثواها بقدر ما اعطت للاهل والجيران والناس وبقدر ما كانت طيبة المعشر ، وحسنة السيرة والسريرة ، و نسالك اللهم ان توسع مرقدها ، وتانس وحدتها وتنقلها من ظلمات اللحد الي مراتع النور ، وان تغفر لها وترحمها وان تشملها برحمنك يا ارحم الراحمين ، وان تسكنها فسيح جناتك مع الشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقا . وان تلهمنا الصبر والسلوان وان بعدها .
وانا لله وانا اليه راجعون .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة