اخبار السودان

واقع التعليم في ظل الحرب وما بعده

مبارك همت

السودان يشهد اكبر مأساة في العالم ، حرب انهكت الدولة تماماً ، نزوح وتشرد للمواطنين تعد الأكبر في العالم ، وخراب للمؤسسات بكافة أنواعها من مصانع ومؤسسات دولة ومستشفيات وجامعات ومدارس وحتى دور العبادة لم تسلم من هذه الحرب ، والمتفحص للأمر يجد أن حرب السودان ليست كمثيلاتها من الحروب التي شهدتها المنطقة والتي تحدث فيها الاشتباكات بين المتحاربين في المناطق العسكرية ، وتنحصر اضرارها في عتاد وقوة المتحاربين فقط ، لكن حرب السودان حينما بدأت من اول يومها بدأت بتدمير البنيات التحتية العسكرية والمدنية ، فالحرب اشتعلت بقلب العاصمة وفي وسط المدينة ، واتسعت رقعتها بسرعة البرق الى معظم انحاء البلاد ، تاركة ورائها الدمار والخراب واشلاء المدن المنهكة والتي يعجز اليراع عن وصفها ووصف مأساتها .
الخسارات تقدر بمليارات الدولارات ، وتستمر الخسارة باستمرار الحرب . لكننا هنا نود التطرق لخسارات مؤسسات التعليم العالي والتعليم العام ، والتي تضررت بصورة كبيرة جدا ، وقد أصاب الدمار معظم الجامعات العريقة والحديثة التي مازالت في طور البناء والتشييد ، والدمار الذي أصاب هذه المؤسسات تفاوت بين خسائر للبنية التحتية من مباني ، والمعامل وقاعات الدرس ومخازن المعلومات والأبحاث .وكل هذا يمكن تعويضه ولكن اهم ما فقدته وتفقده باستمرار هذه الحرب هي الركائز الأساسية لهذه المؤسسات الا وهي الأستاذ والطالب ، وهنا يكمن الخطر الذي يجب ان ننتبه له جيدا . ويجب علينا ان نجتهد على أن لا نخسرهما ، وعلى الجامعات أن لا تقف مكتوفة الايدي الى أن تنتهي هذه الحرب ، ومن ثم تبحث عن الحلول للمشكلات التي ستواجهها لاحقاً . المشكلات عديدة أهمها إعادة تأهيل الجامعات والتي ستكلف المليارات ، وأيضا إعادة الطلاب لحواضنها الجامعية ، اقناع الطلاب للرجوع للدراسة في مقرات الجامعات ، الحفاظ على الأساتذة بهذه المؤسسات من شبح الهجرة التي اضطروا اليها مجبرين .
فإعادة التعمير للمؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة سيشكل معضلة حقيقية في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد الجامعات الحكومية تعتمد على الدعم الحكومي في الأساس بالإضافة لبعض الاستثمارات الضعيفة والتي لا توفر دخلا يذكر ، فبعد الحرب ستعتمد على التمويل المباشر من الدولة لتطوير البنية التحتية ، والدولة نفسها لديها استحقاقات عظيمة في انتظارها ، من اصلاح البنية التحتية ، والمؤسسات الحكومية والمستشفيات وغيرها ، والدولة لن تستطيع توفير الإمكانيات اللازمة وهي عاجزة من قبل الحرب في الوفاء بالتزاماتها وتعاني دوما من عجز في ميزانيتها ، والمؤسسات الخاصة تعتمد على القروض والتمويل البنكي للتشييد وتجهيز الجامعة واحتياجاتها معتمدة في سداد هذه القروض على الأرباح التي تجنيها من الرسوم الدراسية التي يدفعها الطلاب ، والرسوم الدراسية تتأثر طرديا مع التضخم ، فكلما زاد التضخم بمقدار معين تزيد الرسوم الدراسية بزيادة تتناسب مع زيادة الأول والعكس صحيح ، وفي كثير من الأحيان يصعب مجاراة هذه الزيادات الطردية من قبل اسر الطلاب وبالأخص في فترة الحرب التي فقدت فيها معظم الاسر ممتلكاتها ومعظم مدخراتها ، ومازال التضخم مستمر في ظل الحرب والانفاق المالي الكبير على الحرب . عادةً تعتمد الجامعات على بعض الطرق لمعالجة الحد من اثار التضخم ، وتعتمد سياسة الجامعات الخاصة في زيادة رسوم على الطلاب الجدد للجامعة في بداية كل عام جديد ، وتفرض رسوم دراسية تتناسب مع التضخم في فترة القبول. والان بسبب الحرب الجامعات معظمها توقفت كلياً أو جزئياً ، وتأخر قبول الطلاب للعام الاكاديمي 2023م 2024م بسبب عدم جلوسهم للامتحانات وبذلك فقدت الجامعات كثير من ميزانياتها المتوقعة ، ومع ذلك استطاعت كثير من الجامعات التغلب على الظروف والمعوقات واستطاعت ان تعمل في المناطق الامنة وبعضها خارج البلاد ، وكان ذلك اجتهاداً عظيماً يقدر لهذه الجامعات الخاصة والحكومية ، والتي اَثرت على تحمل الصعاب واللجوء للعمل وعدم التوقف ، رغم ان ذلك كان حلا اثقل كاهل الاسر لما تطلبته من رسوم إضافية للتنقل والمعيشة والامتحانات ولكن كان يمثل افضل الحلول الممكنة والمتاحة . بالطبع لم تستطع الجامعات العمل والتشغيل بنسبة 100%، وكان هنالك تباين في نسب التشغيل بين جامعة وأخرى ، بسبب ظروف بعض الطلاب الذين لم يستطيعوا مواصلة الدراسة بسبب ظروف النزوح واللجوء وعدم الاستقرار والضائقة المعيشية ، التي تمر بها البلاد وتمر بها اغلب الاسر السودانية ، وأيضا كذلك لظروف معينات الاتصال من انترنت وتوفر أجهزة الحاسوب لبعضهم ، وكذلك لظروف بعض الأساتذة الذين تأثروا بالحرب مادياً ومعنوياً وعدم الاستقرار.
ولتدارك هذه العقبات ، فعلى الجامعات التفكير مسبقاً على وضح خطط لتعويض هؤلاء الطلاب الذين لم يستطيعوا مواصلة الدراسة ، وأيضاً إيجاد الفرص البديلة الأخرى مثل إجراءات التحويل بين الجامعات وكيف يمكن ان تؤثر في إيجاد بعض الحلول لبعض الطلاب والطالبات ، والعمل من الان لمرحلة ما بعد الحرب ووضع خطط قابلة للتنفيذ من اجل اسراع عملية التحاق الطلاب بالجامعات والمدارس.
وهنالك مشكلة حقيقية ستواجه التعليم العالي في السودان ، أول هذه المشكلات اقناع الطلاب القدامى بالرجوع والجدد بالتسجيل ، فهنالك عدد كبير جداً من الطلاب تحولوا الى جامعات غير سودانية وبدأوا بالفعل هنالك ، دافعهم في ذلك هو البحث عن الاستقرار الاكاديمي والأمني واحيانا بسبب الرسوم المالية المنخفضة مقارنة ببعض الجامعات السودانية ، وبخصوص طلاب الشهادة السودانية (شهادة الثانوية العليا ) وهذه الشهادة القيمة التي لها مدلولاتها ومعانيها عند الطلاب في السودان ، وهذه الشهادة التي استمرت منذ 1938م حينما كانت تسمى شهادة التعليم العامة لدخول جامعة كامبردج واستمرت بهذه الاسم حتى عام 1954م . وعقب استقلال البلاد في عام 1956م تحول اسمها إلى الشهادة المدرسية السودانية وبقيت فيه حتى عام 1970م ومن ثم تم تسميتها باسم الشهادة الثانوية العليا حتى عام 1980م وبعدها سميت باسم الشهادة الثانوية ، والكارثة الحقيقية بدأت لامتحانات الشهادة السودانية التي كانت من المفترض تبدأ بتاريخ العاشر من يونيو 2023م ، ولكن لظروف البلاد بعد تفجر الأوضاع الأمنية واندلاع الحرب حال دون قيامها حتى الان . وقد تقرر عقدها قبل نهاية العام الحالي 2024م ، وستواجه الدولة كثير من الصعوبات والتحديات ، نتمنى انت تستطيع التغلب عليها ، وعقد الامتحانات في الموعد المحدد ، رغم ان عدد كبير من الطلاب قد لا يتمكنوا من الجلوس للامتحانات للظروف الأمنية والاقتصادية ، ويمكن للدولة انشاء مراكز في المناطق الامنة داخل السودان لاستيعاب الطلاب القادمون من مناطق الحرب وتوفير بعض المعينات من استضافة مؤقتة وترحيل وحماية ، ويمكن الاستعانة بعدد من منظمات العمل المدني والطوعي في ذلك وأيضا الاستعانة بالمنظمات الدولية . فهنالك دور للمؤسسات الدولية في دعم تعليم اللاجئين في ظل حالات الصراعات والحروب ، ومن اوجب واجبات تلك المنظمات دعم الطلاب والأطفال النازحين اللاجئين حتى في الدول التي لجأوا اليها. ولكن هذه يحتاج جهد من الدولة للمطالبة بالحقوق والمتابعة والدولة منشغلة بأمر الحرب. فبعمل مقارنة بسيطة بعدد الطلاب الذين جلسوا لامتحان العام (2021م 2022م) حوالي 536 ألف طالب وطالبة ، فالعدد هذه العام قد يقل كثيرا لظروف الحرب ألفم تمكن اعداد كبيرة من الطلاب بتكملة العام الدراسي. ومع ذلك فالعدد لن يكون بالسهل ، وعلى الدولة وضع الترتيبات اللازمة لضمان نجاح سير الامتحانات وما يتبعها من عمليات. وفي حالة ان الامتحانات عقدت بسلام ، فكيف ستجري عملية استيعاب هؤلاء الطلاب ، وفي حالة ان الحرب لم تقف وتنتهي ؟ فستفقد البلاد جل هؤلاء الطلاب. وستتجه غالبية الاسر للبحث عن البدائل للجامعات المحلية ، وسترسل ابنائهم خارج الدولة ، كل على حسب مقدراته المالية ولو تطرقنا لهذا الامر من ناحية اقتصادية بحتة ، سنجد أن البلاد ستفقد أموال طائلة من جراء التحويلات التي سترسل للطلاب خارج البلاد ، وسيأتي ذلك خصما على الاقتصاد السوداني ، في زمن ستكون البلاد فيه احوج للعملات الحرة التي ستنفق في الخارج بدلا من مساهمتها في تنمية وبناء ما دمرته الحرب ، وستتسبب في زعزعة التعليم داخل الدولة لسنوات بعد الحرب ، لذلك يجب وضع الحلول المناسبة لاستعادة عافية الجامعات بسرعة وفي وقت وجيز . والجامعات ان لم تجد الدعم المالي المباشر او عبر قروض ميسرة لن تستطيع النهوض بسرعة ، وسيؤثر ذلك سلبيا على التعليم وأيضا على الجودة التعليمية ، وفي نفس الوقت تعاني البنوك نفسها من تدهور بسبب توقف عجلة الاقتصاد ، وبسبب النهب الذي حدث لها.
واذا تطرقنا للعنصر المهم الأستاذ الجامعي ، نجد أن عدد كبير جدا من أستاذة الجامعات قد غادر البلاد ، وجل هؤلاء الأستاذة وجدوا فرص في البلاد التي نزحوا اليها ، ولن يعودوا ما لم تتوفر لهم كثير من المعينات ، والتي ستكون معضلة أساسية لبعض الجامعات ، مع علمنا بالنقص الذي يعانيه قطاع التعليم من كوادر اكاديمية.
لذلك على وزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم بعقد ورش ومؤتمرات والاستعانة بخبراء المجال من أجل تلافي هذه المعوقات ، وأيضا إيجاد مانحين دوليين لدعم المؤسسات التعليم التي تضررت. اما انتظار العمل بعد انتهاء الحرب فيعني فقد الكثير الكثير والوقت يسرقنا جميعا..
# ولا ثم لا للحرب .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *