وإت شنو رايك يا دكتور
عثمان يس ود السيمت
رأيت اليوم صورة في الميديا (لرجالات) الإدارة الأهلية واقفين صف وهم يكرمون ندى القلعة. الصورة جايبة منهم 10 ما فرزتهم كويس ، وهي أكثر صورة تمنيت أن تكون غير حقيقية يعني فوتوشوب أو ذكاء اصطناعي أو حتى طشاش نظر مني ساكت. غايتو إن طلعوا فعلا (إدارة أهلية) نقول (أمااااانة ما كتل راجل) كسرة على الكاف. وراجل بقصد بيها (رجال زمان ما رجالات الليلة). إذا كرمتوها فعلا أقترح تدوها (النحسات) جمع نحاس ترقص بيهو البنات. َقبل كم يوم استمعت ورأيت فيديو بالميديا لأحد شيوخ و (أعمدة) الادارة الأهلية قالوا أنه ناظر ، كان يخطب في الجزيرة خطبة عصماء أكثر في الحديث والوعيد والتهديد والترحيب ثم الترهيب ثم يعود للترغيب وأناس يقفون تحته رسميون وشعبيون يصفقون ويهتفون. فالرجل رغم أنه (إدارة أهلية) فقد ارتدى ثوب تنفيذي فهو يعد ناس الكنابي وعودا كثيرة بأشياء ليست من اختصاصه ويحذرهم بأمور قضائية هي أيضا ليست من اختصاصه. يا ربي نحن ماشين علي وين. هههههه في الواقع نحن ما ماشين لا لا نحن ما ماشين ، نحن كمن خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. لكن ما تخافوا فالطيور العزيزة لا تأكل الميتة، فتلك بغاث الطير. قال دعبل الخزاعي:
فَلَيسَ بُغاثُ الطَيرِ مِثلَ عِتاقِها
وَلَيسَ الأُسودُ الغُلبُ مِثلَ الثَعالِبِ
وَلَيسَ العِصِيُّ الصُمُّ كَالجَوفِ خِبرَةً
وَلَيسَ البُحورُ في النَدى كَالمَذانِبِ
عرفت الإدارة الأهلية بالحل والعقد، بل هم أهل الحل والعقد وهم لا (يتصدرون الفارغة) وكان هذا ديدنهم. جلست عدة مرات مع شيخنا وناظرنا الشيخ محمد الصديق طلحة ناظر عموم البطاحين رحمه الله ، كان يمثل الهيبة والمهابة والحكمة وكل ما تتخيله من صفات القيادة ، ورغم أنني بدأت معرفتي به وأنا في الثانوي إلا أنني التقيته مرات بعد التخرج من الجامعة ، كان يعطي لكل إنسان قدره ويحدثه بما يفهمه. كان مقلا في حديثه لأنه يعلم أن الناس تتوقع في ما يقوله الحكمة والصدق. قابلته في شمبات وكان قد حضر للعزاء في وفاة سائق بالمجلس الريفي كان كثيرا ما ينتدب للعمل معه ، يومها كانت المظاهرات مشتعلة في انتفاضة أبريل 1985م وكنت أنا عضوا بنقابة الأطباء فرعية بحري التي انطلقت منها الانتفاضة. سألته وأنا أسير معه (لأقدمه) للمواصلات (لم تكن البرادو وفارهات السيارات) من طموحاتهم (ولم يسعونها) السعية هي البهائم. سألته عن رأيه في (الحاصل) وأقصد الانتفاضة فابتسم بسمة خفيفة وسكت ولم يجبني ، وعندما وصلنا الشارع إستدار وسألني (وإت شنو رايك يا دكتور) إت يعني إنت ، ثم ودعني دون انتظار الإجابة وركب بوكسي المواصلات. تركني في حيرة ، ويومها حاولت استدرار عقلي وخبرتي التي لا تساوي شيئا ولا تقارن بخبرته لمعرفة الإجابة التي لم يقلها. لم أصل إلى أي نتيجة لكنني وبعد (نجاح) الانتفاضة رجعت لسؤاله (وإت شنو رايك يا دكتور). وفهمت السؤال بل وعرفت الإجابة من منظوره هو وحكمته هو لا من منظوري (وحماسي) أنا. فبالرغم من أنني كنت صاحب المقترحات الأربعة التي اصبحت مطالب الانتفاضة للحكومة واصبحت ستة مطالب بعد أن اضافت إليها مركزية الأطباء مطلبين هما : (خامسا : الدعوة للعصيان المدني في حالة عدم استجابة الحكومة وسادسا : دعوة النقابات والتنظيمات للتضامن معنا). عندما اقترحت المطالب الأربعة كنا في اجتماع فرعية بحري. وبعد نجاح الانتفاضة بدأت (مياه كثيرة ومختلفة بالجريان تحت الجسر). أحسست بأننا فقدنا السيطرة على الأمور حيث لم تمر أربعة أيام إلا وبدأ (زعماء) الأحزاب في مقابلة سوار الدهب (لتهنئته بنجاح الثورة) كما يقولون في خطاباتهم القصيرة بعد اللقاء على الهواء بالتلفزيون ونحن لم يعد الهواء هواءنا ولا التلفزيون لنا. و(نحن) لم نقابل سوار الدهب للتهنئة فلو كان هناك ضرورة للتهنئة كان يفترض أن تكون لنا نحن لا لمن انحاز لصفنا. هنا ادركت معنى سؤال (وات شنو رايك يا دكتور) ومعنى تلك الابتسامة ، وأجبت فورا على السؤال متأخرا كمن يجيب على السؤال الأخير في ورقة الامتحان لكن (بعد أن تسحب منه ورقة الإجابة) لانتهاء الزمن ، وكانت إجابتي (ما عندي راي يا شيخنا) ، نعم ما عندي راي وكنت يومها في سن شباب ثورة ديسمبر وعاد الزمن نفسه ونفس المياه التي (جرت تحت الجسر) لكنها كانت قد أصابها (الأسن) يعني اصبحت آسنة (من كثرة الركود) بل فاحت رائحتها لكنها للأسف هي (المياه الوحيدة المتوفرة للشعب السوداني). كتبت في 19 أبريل 2019م مطالبا (ميدان الاعتصام) بالجلوس للتفكير بدل (المخاطبات الاحتفالية) طالبتهم بتشكيل (تنظيم سياسي لثورة ديسمبر) ولكن صوت الاحتفال كان فوق صوت العقل خاصة وقد تم الاختراق وغمرت المياه الآسنة ميدان الاعتصام وكان الرد دائما (لا نريد شق الصف) وهم يعرفون عن أي صف يتكلمون وشباب الثورة يعتقدون أنهم يتكلمون عن صف الثورة. قدرنا دائما أن نقول (ما أشبه الليلة بالبارحة) والبارحة دائما ما كانت سمحة وليلتنا دائما شبه امبارحتنا وللأسف ، وعترتنا ما بتصلح مشيتنا وجيراننا المصريين قالوا (أوقف معووج وامشي عدل) لكن نحن هلا هلا بنقيف عدييييل زي الصمد بس مشينا معووج وكلفتة .رحم الله شيخنا الشيخ محمد الصديق طلحة.
عندما رأيت الصورة اليوم مع ندى القلعة تذكرته ولمت نفسي كثيرا في أنني جمعت في لحظات التذكر بين هذا وذاك في رأس واحد هو رأسي وعقل واحد وهو عقلي وخيال واحد هو خيالي. فلا يجوز خلط الذهب بالتراب ولا ينبغي وأصلو ما ممكن.
وسبح خيالي مع الشعر فهو الذي يستفني في مثل هذه المخازي واصبح بالنسبة لي أحد آليات الدفوع النفسية لفرويد يريحني قليلا ومؤقتا ، فتذكرت أبيات قصيدة كثير التي القاها امام المأمون ويقول فيها معاني قد لا تتفق كثيرا مع الموقف لكنها تغلفه ببعض معاني خفية ضرورية تخفف من وقعه ولتكتب تحت صورة اليوم :
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير اذا تراه فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أطولها رقابا ولم تطل البزاة ولا الصقور
خشاش الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلات نزور
ضعاف الأسد أكثرها زئيرا وأصرمها اللواتي لا تزير
وقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
ينوخ ثم يضرب بالهراوى فلا عرف لديه ولا نكير
يقوده الصبي بكل أرض وينحره على الترب الصغير
فما عظم الرجال لهم بزين ولكن زينهم كرم وخير
غنى زيدان إبراهيم (زمان) رحمه الله:
وسط الزهور متصور وجهو الصبوح ومنور
واحسبه يقول (اليوم) :
وسط الشيوخ متصور وجهو ال (احسن تكملوها إنتو)
ارجو أن يكون الله قد كتب على أمتنا أن ترى أسو سنينها الماضية والقادمة في سنتين لا ترى بعدهما إلا أعوام خير وبركة فيها يغاث الناس وفيها يعصرون. ما رأته أمتنا ورآه شعبنا في سنتين هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولم يخطر على قلب بشر.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة