«هنا أمدرمان» بوابة الانقلابات وسجلّ ذاكرة وطنية مهدّدة بالخراب
منصور الصويم
في رواية “الخريف يأتي مع صفاء”، يقدم الروائي أحمد حمد الملك، مشهدا سحريا بديعا لمحاولة انقلابية ناجحة، ويصور قائد الانقلاب بطل الرواية في مشهد فانتازي ساخر، وهو يقود دبابة بمفرده يتحرك بها متنقلا في شوارع المدينة إلى أن يصل إلى مبنى إذاعة أمدرمان، ليقتحم أبوابها ويعلن انقلابه على الحكم من داخل أحد استديوهاتها، ويصير بعد ذلك الحاكم الأوحد للبلاد، وديكتاتورا يرهبه الجميع ويخشون حتى الاقتراب من ظله.
أرشيف مهدد
خلال الأسبوع الماضي نبّهت نقابة الصحفيين السودانيين، من خطورة المعارك التي تدور في محيط إذاعة أمدرمان، وأشارت إلى أن القتال العنيف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بات قريبا من مباني الإذاعة والتلفزيون، ومهددا من ثم لكل الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني بالاحتراق والضياع، وحذرت النقابة في بيانها من “تدمير أو إتلاف أرشيف يقترب عمره من المئة عام”.
ما الذي يحويه أرشيف الإذاعة؟ وما الذي يمثله بالنسبة إلى السودانيين؟ وهل يشكل بالفعل جزءا من الذاكرة الجمعية للشعب السوداني؟ أم أن الإذاعة نفسها لم تكن سوى إحدى وسائل الدولة السودانية في التهميش والإقصاء وإعلاء ثقافة واحدة على بقية الثقافات التي يعج بها بلد متنوع الثقافات مثل السودان؟
أسئلة مثل هذه طرحها كثيرون قبل اندلاع الحرب المدمرة في السودان وبعدها، وجلها ارتبط بقضايا الهوية وما يعرف بـ “الهامش والمركز”، والانتقادات التي توجه إلى دولة السودان، أو “دولة 56″ عند البعض، و”الغولة السودانية” عند البعض الآخر، مما جعل البعض يعتبرها إقصائية و”أمدرمانية” صرفة، في حين يرى فيها بعض آخر سجلا للذاكرة الجمعية.
قبلة الانقلابات
أصيب ديكتاتور “الخريف يأتي مع صفاء” بداء النسيان مع تعمق الرواية، تاه عن بيته وعن نفسه، وارتبكت في رأسه الأشياء، وعلى الرغم من ذلك ظل حاكما أوحد للبلاد. وقائع غريبة ومفارقات لا تصدق حوتها تلك الرواية التخيلية الذكية، وهي تروي سيرة الفساد المحزنة في بلاد السودان، إلا أن الواقع السوداني حوى ما هو أفظع وأكثر غرائبية، إن تتبعنا سيرة الانقلابات، التي تبدأ كما في الرواية باقتحام دبابة أو قوة ما للإذاعة، وتنتهي غالبا بتعليق الناس على المشانق أو حصدهم بالرصاص. تقف الإذاعة إذن عند حدّين، كونها البوابة الأولى لكل مآسي السودان، البيان الأول وما يليه من خراب، وربما المصدّ الشفيف الذي يمرر الديكتاتوريين المخربين عبر منافذه اللامرئية، ولكن يُبقي هناك في العمق الإرث الحقيقي لهذه البلاد “تاريخها”، محفوظا ومصونا وشاهدا على الأيام.
إذن، ظلت إذاعة أمدرمان هي القبلة الأولى لكلّ انقلاب عسكري شهده السودان طوال سنواته السابقة، بل هي المقياس الأول لنجاح الانقلاب، أو الحركة التصحيحية، والثورة، وغيرها من المسميات التي كان يطلقها قادة الجيش الانقلابيون عند استيلائهم على الحكم في البلاد. فالمارشات العسكرية و”البيان الأول”، الآتيان من الإذاعة، كانا المؤشر الأول الذي يدل السودانيين على حدوث تغيير سياسي في البلاد ونظام الحكم. ومن بين عشرات الانقلابات العسكرية بعضها أذاع بيانه الأول وأسمع الناس موسيقاه نجحت ثلاثة انقلابات كبرى، حكمت البلاد لأكثر من نصف قرن من الزمان، دمرت خلاله الاقتصاد وأرجعت السودان وناسه قرونا إلى الوراء.
وطوال هذه السنوات العسكرية المأساوية، ظلت “هنا أمدرمان” تعمل نشطة، محروسة بالدبابات والعسكر، تتوقع ميكروفوناتها كل فجر صوت مغامر جديد يعلن ثورته، بينما تستمر أستديوهاتها في بث الأغاني والبرامج المتنوعة، منقادة إلى السلطة الجديدة أيا كانت، من أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
برامج متنوعة
في يوم ما، قبل عقود من الزمان، كان السودانيون، لاسيما العشاق والمحبون، يتحلقون حول أجهزة الراديو للاستماع إلى أغنياتهم الأثيرة، التي يختارونها بأنفسهم ويهدونها إلى من يودون من أحباء وأصدقاء، عبر البرنامج الرائج وقتها “ما يطلبه المستمعون”.
مدير البرامج في الإذاعة والتلفزيون، خلال الفترة الانتقالية، السر السيّد، يرى أن برنامجا مثل ما يطلبه المستمعون “شكّل فرصة لبناء خريطة لتنوع اختيارات السودانيين وأذواقهم الغنائية بصورة ديمقراطية”، لكنه عاد واستدرك بقوله: “نعم قد تكون الغلبة كانت لما يوصف بأنه أمدرماني، وذلك بسبب الحيز المتاح له في الخريطة البرامجية”، يقول لـ “المجلة”.
المقصود بالأغنية الأمدرمانية، والنسبة هنا تعود إلى الإذاعة، هي تلك الأغنيات التي تمثل ثقافة وسط السودان من حيث اللغة واللحن (السلم)، والأداء وأسلوب تناول الموضوعات، سواء العاطفية أم الوطنية، والأغنية الأمدرمانية نفسها مقسمة من الداخل إلى عدد من الأنماط المتشابهة والمتطورة عن بعضها، مثل أغنية الحقيبة، والأغنية الشعبية، والأغنية الحديثة، ويقصد بها التوزيع الموسيقي الحديث ذاته، وتعتمد في تقديمها على الآلات الموسيقية الأوركسترالية والصورة النمطية للفنان العصري (بدلة وربطة عنق وأناقة حداثية). استحوذ هذا النمط من الأغنيات على الحيز الإذاعي تماما طيلة عمر الإذاعة (أسسسها المستعمر البريطاني في أبريل/ نيسان 1940 لنشر أخبار الحرب العالمية الثانية) إلى الحد الذي خصصت فيه برامج استمرت لسنوات طويلة تشرح وتوثق لنمط واحد من هذه الأغنيات، مثل برنامج “حقيبة الفن”، وهو برنامج توثيقي مهم، حفظ أرشيف أغنية الحقيبة وعرّف الأجيال على الظروف التي أوجدت هذا الشكل من الأغنيات العاطفية، وسرد القصص والحكايات عن شعرائها ومغنيها والمناسبات التي قيلت فيها الأشعار. وسر التسمية يعود حسب ما يروى إلى اللحظة التي أعلن فيها مقدم حفل إذاعي شهير، واحدة من هذه الأغنيات، وأخرج من حقيبة يحملها حزمة أوراق كتبت عليها القصائد الغزلية، فسميت أغنياتها بالحقيبة.
في الجانب الآخر غابت تماما عن برمجة الإذاعة ألوان أخرى للغناء، ذات أساليب شعرية مختلفة وإحالات رمزية غير مألوفة لدى أهل الوسط، إضافة إلى اختلافها في بعض المناطق من حيث التوزيع الموسيقي، وهذا ربما يفسّر الدهشة التي أصابت الكثيرين لحظة استماعهم لأغنيات البدو الرحل التي انتشرت بعد اندلاع الحرب الأخيرة! فلصالح من غُيّبت هذه الثقافات، وما الغناء إلا أحد مظاهرها، شرقا وغربا وجنوبا، في أرض السودان الفسيح؟
سؤال التنوع
يقول السر السيّد إنه ليس من الدقة وصف الإذاعة السودانية بأنها كانت تكريسية للثقافة الأمدرمانية، وهذا من خلال النظرة الكلية لما قدم من برامج. ويضيف أن هذا لا يعني أن السياسة البرامجية كانت مدركة طيلة مسيرتها لسؤال التنوع، لأنه سؤال جديد على مستوى العالم، ومع ذلك أنجزت الإذاعة فيه الكثير.
هناك برامج حققت نجاحا كبيرا في التواصل مع كل السودانيين مثل برنامج “الصفحة الأولى” يقول مدير البرامج السابق وهو برنامج منوعات فيه رسائل من كل ولايات السودان ذات طابع إخباري وثقافي، ويبث على الهواء مباشرة وتطرح عبره يوميا قضية للتداول.
ومن البرامج الأخرى المهمة برنامج “النفّاج” ويعنى بالتراث الثقافي السوداني بوجه عام، وبرنامج “شريط الذكريات” وفيه سرد لسير ومذكرات رموز سودانية من مختلف جهات السودان، إضافة إلى برامج “أقنعة القبيلة”، و”مع الموسيقى الأفريقية”، والبرنامج المهم “تفسير القرآن الكريم مع البروفسور عبدالله الطيب”، وفيه فسر القرآن الكريم باللغة العامية السودانية المبسطة، فوصلت شروحاته إلى كل الناس. هذا إلى جانب برامج الدراما الإذاعية الذي شكل حضور الريف السوداني حيزا كبيرا فيه.
من المفارقات أن أخصب فترة للإذاعة السودانية حسب قول السر السيد هي فترة نهاية الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي واحدة من أكثر الفترات التي شهدت انقلابات عسكرية ومحاولات متتالية لاقتحام الإذاعة عبر الدبابات.
يبقى أخيرا وبغض النظر عن اتجاهات الإذاعة السودانية خلال الحقب الماضية، إلا أنها تحوي إرثا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا مهما للذاكرة السودانية، وهذا الإرث بات الآن في مهب الريح، أو تحت لفح نيران الحرب إن صح التعبير.
*نقلا عن مجلة “المجلة”
المصدر: صحيفة التغيير