اخبار السودان

هل يمكن أن يموت شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”؟

نبيل منصور

 

في قلب المعركة الوطنية من أجل الدولة المدنية في السودان، برز شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” كتعبير شعبي مكثف عن رفض عسكرة الحياة السياسية، ورفض المليشيات بوصفها رمزاً للعنف المنفلت وتفكيك الدولة. لم يكن الشعار مجرد صرخة عاطفية ، بل خلاصة تاريخ طويل من القهر والاستبداد، وصيغة لغضب تراكمي ضد تغوّل السلاح على السياسة.

 

لكن بعد مرور أكثر من خمس سنوات على ظهوره في فضاء الثورة، ومع اندلاع الحرب الشاملة في أبريل 2023م، بدأ يطفو سؤال جوهري:

هل يمكن أن يموت هذا الشعار؟

 

1. الشعار ككثافة رمزية

 

كل شعار يحمل في داخله كثافة رمزية. هو ليس فقط جملة لغوية، بل تعبير عن منظومة من المعاني، والسياقات، والآمال، والصدوع. “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” اختزل في عبارتين رغبة الناس في التحرر من الدولة الأمنية، وتفكيك اقتصاد العنف، وإنهاء الازدواجية في حيازة السلاح.

 

من الناحية الفلسفية، الشعار لا يموت بمجرد تغيّر السياق، بل يموت عندما تُكسر دلالته الأخلاقية في الوعي الجمعي، أو يتحول إلى مجرد أداة تخوين بدل أن يكون دعوة للمشروع. إذن، موته مرهون بانطفاء جذوة الحلم المدني، وهو ما لم يحدث بعد.

 

2. بين الشعارات والواقع: مسافة المشروع

 

قد تمر الشعارات بأزمات، ولكن هذه الأزمات ليست إعلان موت، بل لحظات اختبار. فالتحول من الهتاف إلى المشروع هو ما يضمن بقاء الشعار. يجب ألا يُفهم “العسكر للثكنات” بوصفه فقط موقفاً سياسياً، بل كبداية لتصميم دولة القانون. و”الجنجويد ينحل” ليس تعبيراً عن كراهية لفئة، بل رفض لتكوينات خارج الدولة تُعطل التعاقد الاجتماعي وتنسف مبدأ الاحتكار الشرعي للعنف.

 

إن من يريد تجاوز الشعار عليه أن يقدّم بديلاً نظرياً ومؤسسياً، لا مجرد السخرية منه أو الزعم بأنه تجاوزه الزمن. التاريخ يُعلّمنا أن الشعارات تُولد من رحم الحاجة، وتذبل حين تنتفي هذه الحاجة أو يُنجز المشروع الذي كانت تعبّر عنه. ولسنا هناك بعد.

 

3. دروس التاريخ: هل ماتت شعارات مشابهة؟

 

في العديد من تجارب الانتقال نحو الدولة المدنية، لعبت الشعارات المشابهة دوراً محورياً.

 

في إسبانيا بعد سقوط فرانكو، لم يُنس شعار “الجيش يعود للثكنات”، بل كان ذلك أساساً لـ”التحول الديمقراطي” الذي وضع أسس ميثاق الدولة الحديثة.

 

في تشيلي، بعد ديكتاتورية بينوشيه، لم يتم تجاوز مطلب إنهاء سيطرة العسكر على الحياة المدنية، بل تمت ترجمته إلى إصلاحات دستورية وهيكلية عميقة.

 

حتى في إندونيسيا، حيث حكم الجيش لعقود، كان شعار “من أجل دولة مدنية، لا سلطة للجنرالات”، مدخلاً لتفكيك الدولة الأمنية بعد رحيل سوهارتو.

 

 

في هذه النماذج، لم تمت الشعارات، بل تطورت، وصارت مضامينها جزءاً من الوثائق الدستورية والمؤسسات الحديثة.

 

4. السودنة: خصوصية الشعار في سياقنا

 

السودان لا يعاني فقط من عسكرة السياسة، بل من “مليشنة الدولة”، أي دخول الكيانات غير النظامية في قلب جهاز الدولة، بسلطة موازية، واقتصاد مستقل، وتحالفات قبلية وخارجية.

ولذلك فإن الشعار هنا لا يعبّر فقط عن مطلب مدني، بل عن ضرورة وجودية لبقاء الدولة نفسها.

نعم، قد يتغير لفظ الشعار، أو يُعاد تأطيره، أو يُدمج في خطاب سياسي أوسع، لكن دلالته ستظل باقية ما دامت شروط نشأته قائمة:

 

• وجود جيش يتدخل في السياسة،

 

• ومليشيا تفرض منطقها على المجتمع،

 

 

• وغموض في السلطة، واحتكار العنف خارج القانون.

 

 

5. الأزمة الحقيقية: لا في الشعار، بل في المشروع

 

الجدل حول الشعار يعكس في جوهره غياب مشروع مدني شامل.

الشعار لا يُبنى عليه وحده وطن، لكنه يمكن أن يكون مدخلاً لسؤال أكبر:

ما هي الدولة التي نريد ؟ ما هو تصورنا للعدالة الانتقالية ؟ كيف نضمن إصلاحاً عسكرياً حقيقياً ؟ من يملك السلاح ؟ وكيف نعيد للمواطن الثقة في الدولة ؟

 

إن الإجابة على هذه الأسئلة هي التي تُحيي الشعار، أو تُفرغه من مضمونه.

 

خاتمة:

لا يموت الشعار، بل يُعاد تشكيله. ليس الشعار هو من يقرر مصيره، بل وعي الناس به. وحين يُطرح السؤال: “هل مات شعار العسكر للثكنات والجنجويد ينحل؟”، فالإجابة ليست بالنفي أو الإيجاب، بل بالاشتباك معه:

 

• بتوسيع مضمونه،

 

• بإعادة صياغته ضمن رؤية وطنية،

 

• بتحويله من هتاف إلى خطة،

 

• ومن موقف أخلاقي إلى برنامج سياسي.

 

الشعارات الكبرى لا تموت، بل تعيش بأشكال مختلفة. والشعب الذي ما زال يحلم بدولة مدنية، لا يمكن أن يُشيّع شعاره المركزي قبل أن يحقق غايته.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *