هل يصلح العطار ما أفسده الدهر ؟ السودانية , اخبار السودان
الجيش السوداني في عامه السبعين :
هل يصلح العطار ما أفسده الدهر ؟
تقرير _ خالد فضل
في يوم 14 أغسطس 1954م تمت عملية سودنة، قوة دفاع السودان لتصبح نواة للجيش الوطني السوداني، البلد الذي نال استقلاله الكامل عن دولتي الحكم الثنائي( بريطانيا/ مصر) في اليوم الأول من شهر ينائر عام 1956م. بعد حكم استعماري ابتدأ في سبتمبر 1898م بهزيمة جيوش دولة المهدية في معركة كرري الشهيرة، وصار الضابط السوداني محمد أحمد الجعلي أول قائد سوداني للجيش الذي تمر هذه الأيام الذكرى السبعين لسودنته، وعلى رأس قيادته اليوم الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الذي وصلت في عهده البلاد إلى مرحلة مفصلية يتهدد فيها وجودها وكيانها نفسه.
ويتحمل الجيش مسؤولية هي الأعظم فيما آلت إليه الأوضاع بحسب مراقبين كثر . ووفقا لشواهد عديدة .
التسيس القاتل والعطب البائن :
في تغريدة لحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي على منصة (×) بمنسبة هذه الذكرى كتب : أهنئ الشعب السوداني بأحد أعظم انجازاتهم وهو تأسيس الجيش من دمهم ولحمهم من قبل سبعين سنة، وأنّ التسيس الذي لحق بالجيش كان بفعل النخب والسياسيين الذين قاموا بتحوير الجيش لمصالح السياسة، جيروا مؤسسة الجيش كان بهدف تفضيل عنصر محدد على حساب الآخرين، على الرغم من ذلك إلا أنّ مؤسسة الجيش تظل هي المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تحفظ بها سيادة البلاد وإنقاذ وحدتها المستهدفة .
وهذا لا يمنعنا أن نتحدث بضرورة اصلاحها طالما هي مؤسسة ضحى الشعب السوداني بدماء أبنائه وبناته . بعد إنتهاء هذه الحرب يجب أن نبدأ أول الخطوات، إصلاح الجيش لتنال هذه المؤسسة قوميتها , وتعيد عزتها وتتجنب أخطاء الماضي .
حديث الحاكم مناوي يتضمن الإقرار بالعطب الذي أصاب مؤسسة القوات المسلحة، وتحويرها لخدمة فئات سياسية محددة، مع اشارته لضرورة اصلاحها لتنال قوميتها المفقودة حاليا . وهو حديث يتفق بالفعل مع الوقائع والممارسات التي حدثت في هذه المؤسسة مما أفقدها كينونتها وهزم دورها المهني القومي المنشود.
بل تعالت بعض الأصوات في الآونة الأخيرة لإعادة النظر في تكوينها من أول جديد، وهي أصوات تكتسب مصداقيتها من واقع الحال.
في هذا الإتجاه يشير د. صلاح الدين الدومة ؛ أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية لـ «التغيير» أنه وخلال 70سنة الماضية كان للجيش نجاحات وإخفاقات، وحقبة الإخفاقات كللت تقريبا 35 سنة الأخيرة بصورة خاصة تحت قيادة عمر البشير وعبدالفتاح البرهان باعتبارها من أسوأ الفترات التي شهدها تاريخ الجيش السوداني, وصار خلالها هو نفسه ضحية مختطف من عصابة من أسماهم (الكيزان) بسياساتهم الفاسدة التي تتبعها قيادته، فقد ظل الجيش خلال هذه الفترة يقتل في المواطنين من أبناء شعبه دون أن يصد أو يقتل عدوا واحدا من خارج البلاد .
الإستيلاء على الحكم المحطات الكبرى لقطار التسيس :
بعد عامين فقط من الإستقلال وتحديدا في 17نوفمبر 1958م كان الظهور الأول لقائد الجيش كرئيس للبلاد بإنقلاب عسكري أطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة للتو، وشؤون الحكم هي شغل السياسيين كما هو معلوم . وفي 25 مايو 1969م تكرر ذات السيناريو بإعتلاء العقيد جعفر النميري دست الحكم منقلبا كذلك على الحكومة الديمقراطية المنتخبة ؛ وليدة الإنتفاضة الشعبية في أكتوبر1964م , ليجئ العميد عمر حسن أحمد البشير في 30يونيو1989م معيدا تجربة سابقيه من جنرالات الجيش مطيحا للمرة الثالثة بالحكومة الديمقراطية المنتخبة عقب انتفاضة أبريل 1985م.
ثم أخيرا أذاع الفريق البرهان بيان إنقلابه في 25أكتوبر2021م مطيحا هذه المرة بالسلطة المدنية التنفيذية الإنتقالية التي جاءت تتويجا لثورة ديسمبر 2018م ومبددا لآمال الإنتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي .
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي أبوذر علي الأمين ، ينظر بعمق أكثر وطرق لجوهر الأزمة من وجهة نظره وهو مسار طويل بحسب قوله لـ «التغيير» ابتدرته القوى المدنية سواء في الأحزاب أو التنظيمات النقابية، القوى اليسارية بشقيها القومي ( البعثي والناصري) والأممي (الحزب الشيوعي) والقوى اليمينية بقسميها (الطائفي) و(الحركة الإسلامية الحديثة) ويمضي مفصلا ؛ إن الجيش ظل واحدا من العقبات الرئيسة أمام تطور المسار المدني بفرضية أن القوى المدنية حاولت توظيفه لصالح سيطرتها على الحكم بإعتباره هو نفسه من القوى الحديثة، وأحد مؤسسات الدولة الحديثة.
لكن بالنتيجة بدأ الإعتماد يزداد على القوة العسكرية للوصول إلى السلطة مما أدى في النهاية لعسكرة الحياة المدنية نفسها.
وقد حاولت هذه القوى تعديل المسار العسكري مرارا لكنها كانت تفشل كل مرة رغم صحة التنظير والأطروحات المبذولة منذ عهد عبود وإلى الإتفاق الإطاري الأخير . ويدلل أبوذر على ورطة القوى المدنية _خاصة اليسارية _ عقب إطاحة النميري بها ومحاولة صناعة حاضنة جماهيرية مغايرة، وإندفاعها بعد ذلك نحو جون قرنق، وحتى تكوين التجمع الوطني الديمقراطي لمناهضة الإنقاذ ؛ وهو الأمر الذي عزز من سطوة القوى المسلحة سواء في الجيش أو خارجه مثل حركات الكفاح المسلح في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.
تلك القوى صارت تعبر عن التمثيل السياسي وسط قواعدها وهو خصم بكل تأكيد على مسار التطور الطبيعي للقوى المدنية و بل مضى المسار العسكري الصاعد عقب ثورة ديسمبر ومن تجلياته ظهور تشكيلات درع الشمال أو درع الوسط وظهور (كيكل) وغيره، مع الوجود والظهور القوي والنشط للدعم السريع كرديف للجيش.
كل هذه العوامل وعبر هذا المسار الطويل قاد إلى حقيقة (عسكرة الحياة السياسية بصورة سافرة ) مما يلقي بأعباء وتحديات حقيقية أمام القوى المدنية على حد توصيفه .
في المقابل وبالعودة إلى الوراء قليلا، وفي التاريخ القريب الرئيس البشير يعترف بتفاصيل سيطرة الحركة الإسلامية على كل مفاصل السلطة، ووفق التسريبات التي أذاعتها قناة العربية في 2020م لأحد اجتماعات شورى الحركة، حيث تم التخطيط وتدبير الإنقلاب بقيادة د. الترابي ونائبه علي عثمان، وقال البشير : سنكون واضحين جدا عندما نقول لعضو الحركة أحمل بندقيتك يحملها، أذهب يذهب، هذه عضوية الحركة التي نريدها . ثم يضيف : الترابي أتاهم وهم ضباط وأبلغهم بأن إخوانهم قرروا تسلم السلطة. وهم لم يسألوا من هم إخوانهم . وقالوا سمعا وطاعة. وقال ( سألت د. الترابي الدولة ملك من يا شيخ حسن ؟ فنحن مقتنعون بأنها ملك الحركة الإسلامية).
أما إفادات المرحوم د. الترابي في برنامج شاهد على العصر بقناة الجزيرة الفضائية التي سجلت في 2010 م فقد حوت التفاصيل حول تخطيط وتنفيذ إنقلاب الإنقاذ .
حرب15 أبريل أم الكبائر في مسار تحكيم البندقية :
بمناسبة الذكرى السبعين لسودنة القوات المسلحة 14/8/2024م وجه القائد العام للجيش الفريق البرهان كلمة للشعب السوداني، وصف فيها قوات الدعم السريع بأنها ( مليشيا إرهابية لا علاقة لها بالبلاد وبشعبها، وقد أعملت فيه قتلا ونهبا وتشريدا ساعية للوصول إلى السلطة دون تفويض أو مرجعية دستورية بل فوق جماجم الشعب السوداني ) سونا14/8 بينما في 16مايو2019م، وجه رئيس المجلس العسكري الإنتقالي بيانا إلى الشعب السوداني، قرر فيه تعليق التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير لمدة 72ساعة كمهلة لإزالة تمدد ساحات الإعتصام، وفتح الطرق والجسور، ووقف الاستفزازات . ومما جاء في البيان : في البدء نترحم على شهدائنا الأبرار وشهداء العزة من القوات المسلحة و (الدعم السريع) وشهداء الثورة وتعازينا لأسرهم . إنّ قواتكم المسلحة وقوات الدعم السريع أتت من رحم هذا الشعب ولعبت دورا مهما وفاعلا في إسناد الثورة السودانية العظيمة وانحازت لخيار شعبنا في التغيير وأمنت انتصار الثورة المباركة بهدف حقن الدماء ونقل السلطة للشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة , ولكن الأمور تطورت بصورة متسارعة تمثلت في الآتي :
1/اصدار جداول التصعيد الثوري متزامنا مع سير التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير .
2/الإستفزاز المباشر والإساءة البالغة للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع علما بأن قوات الدعم السريع ولدت من رحم هذا الجيش العظيم ولعبت دورا مهما ومؤثرا في أمن البلاد حربا وسلما وانحازت لثورة الشعب ولعبت دورا مؤثرا في انتصار الثورة وحمايتها ويلعب قادتها دورا سياسيا وإقتصاديا هاما وضروريا , وقائد ثاني الدعم السريع يلعب أدوارا متعاظمة في سبيل استتباب الأمن والإستقرار .
ستظل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وقوات الشرطة وجهاز الأمن الوطني على عهدها في حماية مكتسبات الثورة وحماية الوطن والمواطن .
وفي 14 أغسطس 2024م عاد الفريق البرهان للقول ( سنعمل بلا هوادة على أن نحتفل في العيد القادم لقواتكم المسلحة وبلادنا قد تطهرت من دنس (مليشيا آل دقلو) وأعوانهم بإذن المولى عزّ وجل) وكان الفريق البرهان قد قال بمناسبة توقيع إتفاق مع رئيس الوزراء المستقيل 21نوفمبر2021م (إنّ رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك سيظل محل ثقة ) .
و في سياق عسكرة الحياة المدنية وفق إشارة أبوذر أوضح أن رئيس اللجنة القومية للإستنفار والمقاومة الشعبية اللواء الركن (م) بشير مكي الباهي أن لقاء وفد لجنته مع الفريق البرهان كان بغرض الإستماع إلى موجهات قائد الجيش ونصائحه فيما يتعلق بدعم هذا الجهد الوطني مبينا أن اللجنة ستعمل بالتنسيق مع لجان الإستنفار الولائية حتى تقوم بواجبها على أكمل وجه، وأنها ستعمل على توفير السلاح للمستنفرين بالتعاون والتنسيق مع قيادة القوات المسلحة _ سونا 17/7/2024م . بينما في لقاء البرهان قائد الجيش في بورتسودان مع وفد المقاومة الشعبية بولاية سنار برئاسة المهندس شوقي مصطفى فقد أمن الأول على دعم المقاومة الشعبية، وبشّر التوم هجو عضو اللجنة مواطني الولاية بأن النصر سيكون قريبا داعيا المزارعين للقيام بالتحضيرات الجيدة للموسم الزراعي _ سونا 28مايو2024م.
ولكن في 30يونيو 2024م تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على مدينة سنجة عاصمة الولاية ورئاسة الفرقة 17مشاة التابعة للقوات المسلحة، وتبعتها في 4/7بالسيطرة على رئاسة اللواء 66 مشاة بمنطقة المزموم . مثلما أورد إعلام مجلس السيادة في 20مارس 2024م خبر لقاء البرهان مع وفد المقاومة الشعبية بولاية الشمالية برئاسة الفريق الركن د. صالح يس صالح .
التوافق العسير وتحديات الإصلاح :
يرى د. صلاح الدومة أن الإصلاح ممكن، لأن الجيش مثله مثل بقية المؤسسات الحكومية، ومن الأسس الأولية لعملية الإصلاح في رأيه ؛ إبعاد أشخاص مثل مناوي , فهو لا يملك أي قدرات أو مهارات لا في السياسة ولا في العسكرية ، فاصلاح الجيش يبدأ بتغيير القيادة الحالية، حتى تصبح هناك قيادة من ضباط حقيقيين وليس كما هو حادث الآن، ضباط وقيادة في الجيش تحقق معهم السيدة سناء حمد، ويذلهم على الملأ الناجي مصطفى، ويأتمرون بأوامر شخصية وهمية (الإنصرافي)، عندما يبتعد أمثال ياسر العطا، وتكون هناك قيادة حقيقية من ضباط وطنيين شرفاء غيورين على شرف الجندية التي ارتضوا الإنتساب لسلكها طواعية يمكن أن تسهل مهمة الإصلاح.
ومن أوجه الإصلاح كذلك تكوين لجان متخصصة من العسكريين لشراء السلاح والمعدات العسكرية كلها وعدم ترك الموضوع لسماسرة من أثرياء الحروب لا يفرقون بين طائرة مسيرة عسكرية وطائرة رش المبيدات لمكافحة الآفات .
أما الأستاذ أبوذر , فيرى أن مسألة اصلاح الجيش من المسائل المركزية في مستقبل الحياة السياسية في السودان بل ومستقبل البلاد باسرها لأنه من الضروري وجود القوة العسكرية المهنية الموحدة التي تحتكر السلاح الرسمي، وهذا هو التحدي الحقيقي، لذلك لابد من العودة لمنصة التأسيس وهو الفصل التام بين القوى المدنية والقوى العسكرية، وتوحيد القوى العسكرية في مؤسسة وطنية واحدة، وهو أمر صعب التحقق لأنه يحتاج إلى توافق شامل، وإذ لا يوجد مثل هذا التوافق في الواقع وفي المدى المنظور تظل عملية الإصلاح العسكري عصية على التحقيق، إن عملية الإقصاء المتبادلة بين القوى المدنية نفسها من التحديات التي تعيق عملية الإصلاح، وكما أشرت في صلب الأزمة تكمن عملية توظيف القوى العسكرية في الجيش أو خارجه مما قاد إلى عسكرة السياسة، وهذه العملية من أعقد الصعوبات التي تواجه الإصلاح.
المصدر: صحيفة التغيير