حسن عبد الرضي الشيخ
منذ أكثر من ستة وثلاثين عامًا، رزح التعليم في السودان تحت سطوة نظام حكم تميّز بالإهمال الممنهج لركائز الدولة الحديثة، وعلى رأسها التعليم. كان من يحكمون، ولا يزال بعضهم، ينظرون إلى المدرسة لا باعتبارها مؤسسة لإنتاج المعرفة وبناء الإنسان، بل كعبء إداري يمكن تجاهله، وكأداة يمكن تسخيرها لخدمة مشروع أيديولوجي ضيق، يحافظ على تماسك سلطتهم ومواقع نفوذهم.
تعرّض النظام التعليمي خلال عقود من السياسات المرتجلة لانهيارات متتالية، شملت:
تفكيك المناهج الوطنية وإفراغها من مضمونها التربوي والعلمي،
تردي بيئة التعليم بفعل الإهمال المزمن للبنية التحتية،
تآكل أجور المعلمين حتى أصبحت رواتبهم لا تسدّ حاجاتهم الأساسية،
وتحوّل المعلّم من حامل لرسالة تنويرية إلى موظف مسحوق، مهمّش ومحروم من أبسط حقوقه المهنية والإنسانية.
ورغم هذا الخراب الشامل، يخرج علينا أولئك الذين كانوا شركاء في إفساد التعليم أو على الأقل شهودًا صامتين على موته البطيء ليتحدّثوا اليوم عن “إصلاح التعليم”، و”إعادة الاعتبار للمعلم”، و”الاهتمام بمصلحة التلميذ”. فهل يملك المعلّم السوداني، الذي يعيش يوميًا مرارة الإقصاء والتجاهل، أن يصدّق هذه الشعارات المكرورة؟! فمن أفسد لا يصلح..
القضية لا تتعلق بخطابات إعلامية جوفاء أو محاولات لتجميل الواقع عبر لجان مؤقتة ومؤتمرات موسمية.
إنها قضية ضمير سياسي وأخلاقي؛ فمن جرّد المعلّم من كرامته، وترك المدارس تنهار بلا صيانة، وفرض مناهج مفصّلة لخدمة غايات أيديولوجية، لا يُعقل أن يكون هو نفسه من يحمل مفاتيح الإصلاح.من أفسد التعليم بسياسات الإفقار والتجهيل، لا يمكنه أخلاقيًا ولا عمليًا أن يكون قائدًا لعملية النهوض به.
فالإصلاح الحقيقي يحتاج إلى رؤية وطنية مستقلة، تضع المعلم والتلميذ في مركز الاهتمام، وتفصل التعليم عن التجاذبات السياسية والصراعات السلطوية.
التعليم ليس ملفًا إداريًا.. بل مشروع نهضة. ما يجب أن يُفهم جيدًا هو أن أزمة التعليم ليست مجرد قضية أجور أو ترقيات، على أهميتها، بل هي أزمة مشروع وطني غائب. إنها قضية أجيال كاملة حُرمت من فرص متكافئة في التعلّم، وقضية وطن تراجعت فيه المعرفة إلى الهامش لصالح الولاء والانقياد.
إن استمرار هذا الوضع ليس فقط خطرًا على المعلمين، بل تهديد مباشر لمستقبل السودان كدولة حديثة. فما من نهضة قامت في التاريخ إلا وكان التعليم حجر الأساس فيها، وما من أمة تقدمت إلا حين احترمت معلّمها ورفعت من شأن مؤسساتها التعليمية.
ما الذي ينبغي فعله؟
المعلمات والمعلمون في السودان أمام مفترق طرق تاريخي.
فلا بد من:تنظيم الصفوف المهنية والنقابية بعيدًا عن الهيمنة الحزبية،
التمسك بالحقوق المشروعة، وعلى رأسها الأجر العادل، وظروف العمل الكريمة، والتدريب المستمر،
التصدي بحزم لكل أشكال القمع الإداري ومحاولات الإذلال المهني،
والمشاركة في صياغة رؤية وطنية شاملة لإصلاح التعليم، تُبنى على أسس علمية وقيمية راسخة.
كما أن عليهم أن يدركوا أن انتظار الإصلاح من الذين عبثوا بالمؤسسات التعليمية عقودًا هو ضرب من السذاجة. فهؤلاء لا يسعون إلى إصلاح التعليم قدر ما يسعون إلى استثماره كخطاب سياسي لتبرير استمرارهم في المشهد، أو كوسيلة لإعادة إنتاج ذات المنظومة الفاسدة بوجه جديد.
الكلمة الأخيرة: سيبقى التعليم في السودان رهينة لعقلية الإقصاء والتسويف، ما لم يتقدّم المعلمون الصفوف، ويعيدوا تعريف علاقتهم بالسلطة، من موقع التابع إلى موقع الشريك في القرار. فالمعركة الحقيقية ليست فقط على الراتب أو المنهج، بل على معنى أن تكون معلّمًا في وطنٍ لا يزال يُدار بعقلية الوصاية، ويُهدر طاقاته البشرية باسم الشعارات.
وإن استمرار صمت المعلمين والمعلمات، أو انكسارهم أمام سياط الإدارات وتهديدات الوزارات، هو تواطؤ غير مباشر على تكريس هذا الخراب، وعلى تمكين حفنة من المتسلطين الذين يقررون متى تُفتح المدارس، ومتى تُغلق، وكأنها ملك خاصّ لهم، وليس ملكًا عامًا للشعب وللمستقبل.
لقد آن أوان القطع مع وهم “الإصلاح من الداخل”، وبدأ زمن الحقيقة: إصلاح التعليم يبدأ من استقلال المعلم وكرامته، وينتهي عند بناء مجتمع عادل يحترم المعرفة ويصون الإنسان.
المصدر: صحيفة الراكوبة