في وقت تتسارع فيه الاتهامات الدولية بشأن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية خلال حربه ضد قوات الدعم السريع، تعود قضية “الغازات السامة” إلى الواجهة من جديد، وسط تحذيرات من تبعات سياسية واقتصادية ودبلوماسية قد تضع البلاد أمام عزلة دولية غير مسبوقة..
التغيير: نيروبي: أمل محمد الحسن
خلال أكتوبر الجاري، نشر موقع فرانس 24 تقريرًا مطولًا حول استخدام الجيش السوداني للسلاح الكيميائي في حربه ضد قوات الدعم السريع، ما أعاد إثارة القضية مجددًا بعد أن بدأت في الخفوت، إثر نفي “حكومة بورتسودان” التام للمزاعم الأمريكية.
في مايو الماضي، اتهمت واشنطن الجيش السوداني باستخدام السلاح الكيميائي، وعلى إثر ذلك فرضت عقوبات شملت قيودًا على الصادرات الأمريكية وخطوط الائتمان الحكومية الموجهة للسودان.
وعلى الرغم من أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تذكر أي تفاصيل تتعلق بمكان أو زمان أو نوع السلاح الكيميائي محل الاتهام، فإن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نقلت في فبراير من العام الجاري عن أربعة مسؤولين أمريكيين كبار تأكيدهم أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية، أشاروا إلى أنها غاز الكلور، مرتين على الأقل خلال الحرب الحرب المندلعة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023.
واستخدم فريق تحرير مراقبي “فرانس 24” (France 24 Observers) تقنيات المصادر المفتوحة في التحقيق بحادثين وقعا خلال سبتمبر من العام الماضي بالقرب من مصفاة الجيلي شمال الخرطوم، وأكد خمسة خبراء أن المشاهد التي جرى تحليلها تتطابق مع عملية إلقاء براميل تحتوي على مادة الكلور من الجو.
من جانبها نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش بيانًا تشير فيه إلى تحققها من بشكل مستقل من الموقع الجغرافي لصور ومقاطع فيديو نُشرت في سبتمبر من العام 2024 تؤكد استخدام الجيش لسلاح كيميائي.
وقالت مديرة قسم الأزمات والنزاعات والأسلحة في “هيومن رايتس”، إيدا سوير إن مقطع فيديو نشر على حساب مؤيد للدعم السريع أظهر سحابة صفراء خضراء مميزة للكلور قاطعة بأنه يُحظر استخدامه كسلاح بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية، التي انضم إليها السودان.
غاز قاتل
وصف خبير الوقائع الإشعاعية والكيميائية، اللواء شرطة (معاش) علاء الدين محمد عبد الجليل، غاز الكلور بأنه غاز أخضر مصفر أثقل من الهواء، ويتحلل فيه بفعل التحلل الضوئي، مشيرًا إلى أنه يُعدّ من الأسلحة الكيميائية الخانقة في حال استخدامه أثناء الحروب.
وقال عبد الجليل لـ«التغيير» إن الأوعية التي تحتوي على غاز الكلور تُعرف من خلال علامات مميزة تشمل ملصق رمز الأمم المتحدة (UN) رقم 1017، الذي يشير إلى خطر الاستنشاق من الفئة (2)، كما يمكن التعرف عليها أيضًا عبر رمز الخطر الكيميائي الخاص بالكلور نفسه.
من المحتمل تعرّض البلاد لعقوبات حال تأكيد استخدام غاز الكلور
خبير في الوقائع الإشعاعية والكيميائية
وقال الخبير في الوقائع الإشعاعية والكيميائية إن أثر استخدام غاز الكلور يظهر في شكل اختناق ناتج عن غرق سوائل الرئتين، مما يعيق عملية التنفس ويؤدي في النهاية إلى الوفاة ما لم يُسعف المصاب بسرعة.
ولفت إلى احتمال تعرّض البلاد لعقوبات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية في حال تأكيد استخدام غاز الكلور ضمن أسلحة الحرب، مشيرًا إلى أن معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية تعتمد على آلية دولية لمعاقبة الدول المنتهكة لبنودها، وتشمل هذه الآلية قيام المنظمة بالإبلاغ عن المخالفات وتوصية الدول الأعضاء باتخاذ الإجراءات المناسبة
ورقة ضغط
اعتبر مراقبون أن العقوبات المفروضة على نظام بورتسودان تمثل “عصا” أمريكية تهدف إلى ممارسة ضغوط على قائد الجيش عبد الفتاح البرهان لدفعه نحو مفاوضات تنهي الحرب، غير أن القيادي في حزب المؤتمر السوداني مهدي رابح عقد مقارنة مع التجربة السورية، مشيرًا إلى أن استخدام نظام الأسد للسلاح الكيميائي لم يدفعه إلى الدخول في مفاوضات جادة.
استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية ليس سابقة
قيادي في المؤتمر السوداني
وقال رابح في حديثه لـ«التغيير» إن “نظام بورتسودان” يرتبط بالحركة الإسلاموية ارتباطًا عضويًا، معتبرًا أن الحرب بالنسبة له حرب وجودية يسعى من خلالها إلى الحفاظ على منظومة الفساد والاستبداد التي شيّدها طوال ثلاثين عامًا. وأكد أنه لن يذهب إلى أي مفاوضات، إذ يحصر خياراته بين الحسم العسكري أو الانفراد بحكم مطلق على جزء مقتطع من البلاد.
وأشار إلى أن استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية ليس سابقة مع وجود مؤشرات لاستخدامه لها في معارك سابقة بمنطقة جبال النوبة.
وأضاف: في حال تم استخدام السلاح الكيميائي كورقة ضغط من أجل الوصول للسلام سيكون في الغالب سلامًا متعجلًا لا يخاطب جذور الأزمة مما سيعيد إنتاج الحرب في المستقبل القريب.
الوضع الميداني
من جانبه، يرى خبير دبلوماسي فضّل حجب اسمه، أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا على جميع الأطراف، وتزيد من الضغط على أي طرف عسكري يتحسن وضعه ميدانيًا.
وقلّل الخبير من إمكانية استخدام واشنطن لاتهامات تتعلق بالسلاح الكيميائي كورقة ضغط، موضحًا أن ذلك يستوجب المرور بإجراءات معقدة تبدأ بزيارة لجنة مفتشين دوليين وتنتهي بإثبات الاستخدام. وأشار إلى أن هناك طريقًا أسهل يتمثل في الضغط على دولة الإمارات، التي تموّل قوات الدعم السريع، لحملها على قبول صيغة تتوافق مع وضعها المتراجع في الميدان.
الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا على جميع الأطراف
خبير دبلوماسي
اختلف الناطق الرسمي باسم التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود”، بكري الجاك، مع ما ذهب إليه الخبير الدبلوماسي، مشيرًا إلى أن الإدارة الأمريكية فرضت بالفعل عقوبات على القوات المسلحة، شملت قيادات منظومة الصناعات الدفاعية، وقائد سلاح الطيران، والفريق عبد الفتاح البرهان نفسه.
وقال الجاك في حديثه مع «التغيير» إن تلك العقوبات لا تقل خطورة من اتهام الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية مشددا على أن الإدارة الأمريكية بدأت بالفعل في استخدام ملف السلاح الكيميائي كورقة ضغط من أجل الوصول لسلام في السودان.
مصالح أمريكية
وأضاف الناطق الرسمي باسم التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود”، بكري الجاك بقوله: تسعى “إدارة ترامب” إلى تحقيق مصالح لبعض الشركات الأمريكية عبر منحها مزايا تفضيلية للتنقيب عن المعادن النادرة والنفيسة في السودان وتحقيق أهداف جيوسياسية تتعلق بأمن البحر الأحمر وإبعاد روسيا وإيران.
مسؤولية المدنيين
ويرى القيادي بحزب المؤتمر السوداني، مهدي رابح، أن على المدنيين استخدام ملف السلاح الكيميائي كورقة ضغط، عبر جمع الأدلة التي تثبت جرائم الحرب المرتكبة من الطرفين، بهدف تسريع المطالبة بتقديم قيادات الجيش والجبهة الإسلامية والدعم السريع وشركائهم إلى العدالة الدولية.
وأوضح أن كشف حجم الجرائم التي ارتكبها “لوردات الحرب” يُضعف موقفهم ويحاصرهم قانونيًا، الأمر الذي قد يدفعهم إلى القبول بمفاوضات تؤدي إلى سلام حقيقي ومستدام.
وأضاف رابح أن للمجتمعين الدولي والإقليمي مسؤولية لا تقل عن مسؤولية المجتمع المدني السوداني، تجاه الجرائم الإنسانية غير المسبوقة التي تُرتكب بحق السودانيين والسودانيات اليوم.
المصدر: صحيفة التغيير