هل نحن لسنا غاضبون بما يكفي؟
هل نحن لسنا غاضبون بما يكفي؟
بكري الجاك
منذ اندلاع الحرب في 15 ابريل حتى لحظة اكمالها ما يزيد عن المئة يوم و في إطار تعاطي الناس في مواقع الاشتباكات و خارجها و إزاء هذه الأهوال من قتل عشوائي للمدنيين و ترويع للعامة و انتهاكات جسيمة و اغتصاب يستخدم كسلاح للترويع و لكسر عزيمة الناس في الصمود والمواجهة رغم قلة الحيلة، و إزاء هذه التدمير الممنهج للممتلكات و تعطيل كامل للحياة مررنا نحن السودانيون بكافة انواع المشاعر الممكنة للنفس البشرية. في البدء كان الخوف والذهول، ثم تحول الأمر إلى فجيعة ثم تطور إلى تروما (صدمة) جماعية، ومع النزوح و اللجوء و الفرار تحولت هذه المشاعر إلى إحساس بالفقد و الضياع و من ثم الحنين والحزن والترقب مع محاولة التأقلم و صنع معني للحياة سواء في وسط المعارك أو في فيافي النزوح الداخلي أو في النزوح الى احدى دول الجوار، وما أصعب محاولة صنع معني للحياة خارج سايق أي معنى.
الغريب في الأمر، حسب ما بدأ لي، أننا لسنا غاضبون بما يكفي. أتفهم أن الثقافة العامة لجل الناس في بلادنا هي التسليم و التعامل مع كل نوازل الدهر على أنها قضاء و قدر و أنها أمر رباني و هذا يساعد في جعل الناس تتمتع بقدر كبير من اليقين و الصبر و الجلد إزاء كل هذا الخراب الوطني الكبير. الحقيقة المنطقية و الواقعة هي أن هذه الحرب ليست قضاء ولا قدرا و لا عقابا الهيا لأننا لم نؤدي واجباتنا تجاه الرب بشكل جيد، بل هي من صنع بعض من بني جلدتنا في صراعهم على السلطة و المال و هم من قرر أن يقضي على الأخضر و اليابس و يدمر كل شيء في سبيل طموحات ذاتية تخدم مصالح قوى اقليمية و دولية على حساب كل شيء. كل المشاعر الإنسانية الممكنة يمكن تتبعها فهي مبثوثة في كل الفضاء العام بما في ذلك الاستسهال و التعامل مع هذا الأمر الجلل بمنطق المغارز و الشمار، وما بين هذا وذاك اصطف البعض حول سرديات لا يمكن أن تستقيم منطقا حتى لو تعاطينا معها بمقدار عقل “أبو الجعران” ناهيك عن عقل بشري معقد في تركيبته و في طريقة فهمه لكل شيء من حوله.
كيف يمكن أن يصدق أي عاقل (غير أصحاب المصالح) أن قوة مثل الدعم السريع بتاريخها الدموي و طبيعة تكوينها يمكن أن تكون يوما ما في الجانب الصحيح من التاريخ؟ و كيف يمكن لكل ذي عقل أن يصدق أوهام مثل أنه و بقدرة قادر تحولت هذه القوات من هزيمة ثورة الهامش بالقتل و السحل و الاغتصاب و التشريد إلى قوة تعمل على تفكيك دولة 56 (دولة المركز)؟ من هذا العبقري في الجهل الذي يطالب الناس بتصديق مثل هذه الترهات بل حتي التعامل معها بادني قدر من الجدية؟ و بنفس المستوي كيف لأي ذي عقل أن يصدق من قام بخلق كل هذه الظروف بدءا من إضعاف المؤسسة العسكرية و تكسيرها بالكامل مقابل السماح لقوة تعمل م في شكل ميليشيا أسرية تتمدد و تتحول إلى دولة داخل دولة بأن يطالب الناس في دعمه في ما يسميه بحرب الكرامة وهي ليست سوى محاولة بائسة لتصفير العداد و محو آثار كل ظلامات و انتهاكات الماضي و تصفية لثورة ديسمبر و عملية مكشوفة لإعادة إنتاج نظام سياسي قمعي يحافظ على شبكات المصالح و يوظف جهاز الدولة كواجهة لاكتساب شرعية لمواصلة عمل الكارتيلات بامتدادتها الإقليمية. و كما يحدث عادة في كل نزاع مسلح تتطور شروط و ديناميكيات بشكل مغاير و تفرض واقعا عملياتيا غير متوقع أو محسوب له يجعل من الصعب التنبؤ بمسار الأحداث وما يمكن أن يترتب عليها لاحقا.
جالت بخاطري صورة والدي (وهو جالس في كرسيه في ظل النيمة) و الآلاف من الآباء الأمهات الذين خدموا بلادهم في شتى ضروب الحياة و كل ما كانوا يتوقعونه هو أن يقضوا فترة معاشهم وبدايات شيخوختهم في هدوء، يجلسون في اطراف الشوارع يونسون المارة و يشعرونك بالطمأنينة كلما ألقيت السلام على أحدهم، يراعون احفادهم و يورثون الأسر القصص و الحكاوي التي تبقي لدهور، كيف لهم أن لا يغضبون و بعضهم الآن مشرد في كل منحي و صوب و الذي بقي في دياره سرقت الحرب منه كل معنى للحياة.
جالت بخاطري صورة الاف المغتربين الذين شارفوا على المعاش و بعضهم سهر الليالي وجد و اجتهد ما استطاع ليبنوا لهم بيوتنا و هم يمنون النفس بالعودة و الحياة وسط الأهل و الأقارب و محاولة التأقلم من جديد، و جالت بخاطري قصص العشرات الذين عادوا و استثمروا جل مدخراتهم في عقار أو مشروع لتأتي الحرب و تقضي على كل شيء، كيف لا يكون هؤلاء غاضبون؟ كلنا يعلم أننا في بلاد ليس بها شبكة ضمان اجتماعي و بيوت الناس و عقاراتهم وممتلكاتهم هي عصارة جهد السنون و هي الضمان الاجتماعي، وها هي الآن تتحول الى مجرد خراب، و التي لم تدمر فبكل تأكيد ستفقد قيمتها في ظل هذا الخراب العام و دمار البنية التحتية. أوليس هذا كافيا ليجعل غضبنا أعلى صوتا من إحساسنا بالعجز؟ جالت بخاطري صور طلاب المدارس و الجامعات و ملايين الناس الذين وجدوا انفسهم في صبيحة الخامس عشر من أبريل بلا حياة بلا أفق و بلا مصير.
خلاصة القول، نحن لسنا غاضبون بما يكفي، فرجل مثل البشير هو مسؤول مسؤولية شخصية مباشرة تتجاوز مسؤلية نظام الانقاذ والمؤتمر الوطني في خلقه لواقع تعدد القوات وتمكينها في إطار مخاوفه من ولاء المؤسسة العسكرية و مكايدات الإسلاميين في تحالف المال والسلطة الذي يطلق عليه جزافا “المؤتمر الوطني”، البشير شخصيا يستحق غضبنا فهو و زمرته من خلق الشروط التي أنتجت هذا الدمار و الخراب، أما ما يسمى بقوات النهب السريع التي برعت في ترويع و جغم المدنيين و في احتلال بيوت الناس وانتهاك أعراضهم فهي تستحق أكثر من غضبنا بكثير، ففي كل الأحوال يجب أن لا يسقط مبدأ المحاسبة في إطار مقايضة لوقف الحرب، فإسقاط مبدأ المسؤولية عن هذه الجرائم التي تمت بحق الأبرياء هو مكافأة لمن أجرم و لهذا تبعات جمة، و مهما طال الزمن و بكافة الوسائل يجب أن نعمل كل ما في وسعنا لضمان مساءلة ومحاكمة كل من أجرم في حق الأبرياء الآمنين في كل أنحاء البلاد، و كل هذا يبدأ بأن نغضب بما يكفي و نوثق لهذه الجرائم.
بكري الجاك
3 أغسطس
المصدر: صحيفة التغيير