خدعة العودة إلى الخرطوم: هل نحتاج لمزيد من الكذب؟
✍️ بقلم: حسن عبد الرضي الشيخ
في مشهد لا يخلو من العبث السياسي والاستهبال الرسمي، أصدر عبد الفتاح البرهان قرارًا بتشكيل لجنة قومية عليا برئاسة الفريق إبراهيم جابر، وعضوية أعضاء من المجلس السيادي، ووزراء اتحاديين، ووالي الخرطوم، وممثلين عن مؤسسات الدولة… لا لشيء سوى تهيئة ولاية الخرطوم للعودة العاجلة للمواطنين والمؤسسات الاتحادية.
لكن لحظة!
أليست هذه “التهيئة” التي تم الإعلان عنها اليوم، هي ذاتها التي زعمتم أنها قد اكتملت بالأمس؟
أين كانت هذه اللجنة حين هُرع المواطنون المساكين إلى الخرطوم، ظنًّا منهم أنها باتت آمنة ومهيّأة؟
أم أن إعلان العودة كان مجرد فخ إعلامي، أوقعتم فيه من لا حول لهم ولا قوة، ليجدوا أنفسهم في مدينة بلا ماء، بلا كهرباء، بلا خدمات، وأحيانًا بلا مأوى؟
بل دعونا نتساءل: بأي منطق يتجاوز رئيس مجلس السيادة رئيس الوزراء المُفترض أنه يقود الجهاز التنفيذي في تشكيل لجنة بهذا الحجم والخطورة؟
هل أصبح مجلس السيادة دولةً داخل الدولة؟ أم أن حكومة كامل إدريس لا تزال تبحث عن “قوامها الدستوري” في دفاتر المراسم المفقودة؟
ليس المواطن عندكم أولًا، ولا أخيرًا… إنه حتى ليس في ذيل الاهتمام!
كان الأجدر بل الأوجب أن تخرج الدولة لتعتذر للشعب قبل أن تُكوِّن لجانها.
أن تقول بكل صدق: “أخطأنا حين دعوناكم للعودة قبل أن تكتمل التهيئة.”
أن تتواضع، لا أن تتذاكى وتستغفل الناس وكأن الذاكرة الجمعية السودانية بلا وعي ولا جراح!
ثم أين ردّ الاعتبار لمن كتبوا ونبّهوا ونادوا بأعلى الصوت من على منصات الصحافة الحرة والإعلام المهني محذرين من خدعة العودة غير المدروسة؟
أين البرهان من مقالاتنا التي كشفنا فيها المستور؟
أين رئيس الوزراء من نداءاتنا بأن لا تُرمى الأسر السودانية في الجحيم مرتين: مرة باسم الحرب، ومرة باسم الوطن؟
أين والي الخرطوم من صرخات أهالي المدينة القديمة الجديدة، الذين عادوا ليجدوا أشباح الموت والجوع والخذلان في استقبالهم؟
ذاك “كوم”، ومأساة “العودة الطوعية”… من مصر إلى التيه “كوم” آخر.
وإذا كانت العودة إلى الخرطوم قد تمّت بالخداع، فإن مأساة السودانيين في مصر فاجعة أكبر.
حُشِد الناس باسم “العودة الطوعية”، ووُعدوا بدعم السفارة، وسُلِبت منهم آخر ما يملكون: مفاتيح الشقق، ما تبقّى من الجنيهات، كرامتهم…
ثم تُركوا في شوارع الإسكندرية والقاهرة، يتوسّلون الغيب والنجدة، منتظرين وعودًا لم تأتِ.
هؤلاء ليسوا أرقامًا.
هؤلاء أهلُنا.
هؤلاء من صدّقوا الدولة مرةً أخرى بعد ثلاثين سنة من كذبة الإنقاذ فوجدوا أنفسهم في جحرٍ أعمق من الأول.
من العيب أن نشمت، لكن من المؤلم أن نرى من يُلدغ من ذات الجحر مرات ومرات، ثم يسير خلف من لدغه، وهو يعلم.
رسالتنا إلى الكذابين… ومن لا يزال يصدّق الكاذبين:
كفى خداعًا،
كفى عبثًا،
كفى استغباءً لهذا الشعب العظيم.
الخرطوم لا تزال ساحة حرب، والعودة الآمنة لا تُعلَن في مؤتمرات صحفية، بل تُبنى على الأرض، بالخدمات، والأمن، والحياة.
واللجنة التي شكّلها البرهان ليست سوى اعتراف متأخر ومخجل بأنكم كذبتم، وخدعتم، وألقيتم بأهلكم في التهلكة دون حياء أو حساب.
فيا من صدّقتم الكذابين:
لا عيب في أن تُخدع مرة،
لكن العار، كل العار، أن تصدّقهم مرة أخرى… وتدفع الثمن من دمك وكرامتك.
المصدر: صحيفة التغيير