حلفا الجديدة: سارة تاج السر

في أحد أحياء القرية (14) بمدينة حلفا الجديدة بولاية كسلا، لا يزال المواطن صلاح محيي الدين عبد المولى يستحضر معاناة أسرته مع جوال سكر اشتراه في أبريل 2024، زنة 50 كيلوغراماً وبسعر 117 ألف جنيه، من إنتاج مصنع سكر حلفا، فور فتح الجوال، اكتشف محيي الدين، أن السكر غير طبيعي: لونه أسود، وتفوح منه رائحة نتنة، ويمتلئ بالشوائب.

جوال سكر

ومع أول استخدام في تحضير العصائر بدأ تذمر زوجته وبناته، خاصة عندما تحوّل لون الكاسترد الأصفر إلى أسود قاتم. أربع شهور ظل الجوال في ركن المطبخ، وسط شكوك لا تجد إجابة: هل ما نتناوله فعلاً سكر؟ وعندما بدأ الشك يتسلل إليه، سأل بعض الموظفين في المحلية، فعلم أن هناك بلاغاً مفتوحاً في النيابة بشأن شحنة سكر فاسدة.

ورغم عدم ظهور أعراض صحية على أفراد الأسرة، إلا أن محيي الدين يؤكد أن المعاناة كانت حقيقية: “السكر كان سيئاً في الطعم والرائحة والمظهر، لم نكن مطمئنين لاستخدامه”. ومنذ تلك التجربة، توقف عن شراء عبوات الـ50 كيلو، واكتفى بكميات صغيرة من مصدر آخر يثق به.

بداية القصة

سعد الدين سيد محمد، موظف الصحة والشاكي الرئيسي في القضية، قال إن بداية القصة تعود إلى 18 مايو 2024، عندما كان يتجول في سوق حلفا برفقة زميله ممدوح صادق، ولاحظا وجود سكر يبدو غير طبيعي يُباع في أكياس صغيرة سعة 5 و10 و25 كيلوغرامات، ويقوم أحد التجار بتعبئته يدويًا.

وبعد التحقق من مصدر السكر والتحري بشأنه، قام سعد الدين بفتح بلاغ رسمي، في نفس اليوم، وتم على الفور الحجز على الشحنة. لكن مسار البلاغ اتخذ منعطفًا معقدًا بعد تدخلات وشبهات بالتلاعب في البداية، فُتح البلاغ تحت المادة (47) من قانون الإجراءات الجنائية، لكنه تحوّل لاحقًا إلى بلاغ جنائي بعد أن ثبت أن المتهم تصرف في جزء من الشحنة رغم خضوعها للحجز، ليُعاد تصنيف البلاغ تحت المواد (68/ 100) من القانون الجنائي، والمتعلّقة بالاشتباه وحجز المعروضات.

عينة

ولاحقًا، ومع بروز دلائل على تلاعب مدير هيئة المواصفات في إجراءات أخذ العينة وإرفاق تحاليل غير مطابقة للحقيقة، تم تعديل تصنيف البلاغ مرة أخرى، ليشمل المواد (106 و107) من القانون الجنائي (التي تتعلق بالتزوير والإضرار بالصحة العامة)، والمادة (31) من قانون المواصفات والمقاييس الخاصة بمخالفة المواصفات.

نتائج الفحص

ووفقًا لوثائق رسمية صادرة عن الهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس فرع البحر الأحمر، حصلت عليها لـ(التغيير)، فقد فشلت شحنة من السكر في اجتياز اختبارات الجودة، وعدم مطابقتها للمواصفات القياسية المعتمدة.

وأظهرت تقارير الفحص الخارجي المؤرخة في 30 أبريل و2 مايو 2024، أن الشحنة التي تم تحليلها تحت الرقم (24/ م/ 1/ 95)، احتوت على تكتلات بلورية غير متجانسة ومواد غريبة، إلى جانب ملاحظات تتعلق بوجود بذور نباتات، رائحة غريبة، عوالق حشرية، ومواد غريبة، ما أدى إلى استبعادها من المطابقة.

وأوضحت التقارير أن نسبة الرماد في العينة بلغت 0.06%، والرطوبة 0.50%، فيما بلغت نسبة السكر المختزل الداخلي 5.41%، وهي ضمن الحدود المسموح بها، إلا أن الشحنة لم يُحدَّد نوع السكر بها بدقة، مما عزز من قرار الهيئة بعدم مطابقة المنتج.

تقرير الاختبار الخارجي الخاص بالمواصفات

وأوصت الجهات الفنية بعدم اعتماد الشحنة ورفضها بسبب الملاحظات الفيزيائية وغياب التحديد الدقيق لنوع السكر، مع تأكيد وجود مواد غير مرغوب فيها داخل العينة.

الوثيقتان حملتا توقيع مسؤول المختبر إسلام إسماعيل ورئيس الوحدة فاطمة عيسى، إلى جانب اعتماد من مدير الفرع.

محاولة التلاعب بالأدلة: تحليل غير مطابق للمادة محل البلاغ

بحسب إفادة سيد لـ(التغيير) حاول بعض الموظفين إغلاق البلاغ باستخدام نتيجة تحليل غير متعلقة بعينة السكر، بل بوثيقة تخص مادة “المولاص”، وهي ناتج ثانوي لا علاقة له بالسكر المباشر. وقد أُرفقت هذه الورقة بتاريخ 10 أبريل 2024 ضمن مستندات القضية.

لكن موظف الصحة كشف التلاعب، موضحًا أن الوثيقة لا تُحدد نوع السكر، وأنه تم الاعتماد عليها رغم ورود ملاحظات واضحة داخل المستند نفسه، مثل: “وجود تكتلات صغيرة” و”لم تتم المطابقة لعدم تحديد نوع السكر”.

عند مواجهته لمدير هيئة المواصفات، أقرّ الأخير بأن التحليل يخص المولاص، ما دفع النيابة إلى رفض إغلاق القضية، وأمرت بإجراء تحليل جديد لعينة السكر محل البلاغ، صدر لاحقًا بتاريخ 2 مايو 2024 وأثبت فساد الشحنة مما أعاد فتح القضية.

وأضاف سيد: “أخبرت النيابة أن بلاغي تم تقديمه في 18 مايو 2024، غير أن المدير التنفيذي للمحلية رفض فتح البلاغ، وطلب من سعد الدين التنازل عنه، في محاولة واضحة لتعطيل سير الإجراءات.

ويقول: “اتصل المدير التنفيذي على مدير القسم عبر الضابط الإداري، وطلب منه سحب التفويض الذي مُنح لي، بحجة أن البلاغ لا يُمثّل موقف المحلية. كما تلقيت اتصالًا من مدير صحة البيئة قال فيه صراحة: “أي مسؤولية في هذا البلاغ تتحملها أنت وحدك”.

خطاب لوكيل النيابة

هذا الأمر دفع بسيد للتوجه مباشرة إلى وكيل النيابة، حيث قدّم عريضة بطلب التنحي، إلا أن الأخير رفض ذلك وأجاز له المضي قدمًا في الإجراءات بصفته مواطنًا متضررًا، وبناءً على المستندات، فتحت النيابة بلاغًا جديدًا في مواجهة مدير هيئة المواصفات تحت المواد (106، 107) من القانون الجنائي، بالإضافة إلى ما ورد في المادة (31) من قانون المواصفات والمقاييس.

ويروي موظف الصحة ممدوح صادق لـ(التغيير) وهي نفس الشهادة التي شهد بها أمام المحكمة كيف أنه لاحظ في 18 مايو وجود “سكر أسود” يباع في الأسواق، وبعد التحري، تم ضبط (2300) جوال تعود لأحد تجار الجملة.

قال صادق: “لكن، فوجئنا بفك الحجز بعد أقل من شهر، رغم أن السكر متحجّر ومتغيّر لونه، ومحتوى على شوائب”.

وأشار إلى أن معلمي المدارس رفضوا استلام هذا النوع من السكر ضمن التموين الرمضاني بالأقساط، وهو نظام متبع منذ سنوات، حيث يتم توزيع السلع للمعلمين والعاملين بالدولة على أن تُسدَّد قيمتها لاحقًا خلال العام أو على مدى عشرة أشهر.

رواية تاجر الجملة

خلال 17 جلسة محاكمة متواصلة، تمسك تاجر الجملة المتهم بروايته أمام المحكمة، وقال في حديثه لـ(التغيير) إنه اشترى شحنة السكر موضوع البلاغ من مصنع سكر حلفا الجديدة مباشرة، في فبراير 2024، واستلمها في 17 أبريل، بموجب شهادة مطابقة وفواتير رسمية مودعة في ملف التحري والمحكمة، حيث يعمل وكيلاً معتمدًا للشركة السودانية للسكر منذ 2015.

وأوضح أن الشحنة المتنازع عليها مكوّنة من (5) آلاف جوال، تم توزيعها بالكامل في أسواق حلفا، واشتراها تجار جملة آخرون.

نتيجة تحليل غير متعلقة بعينة السكر

شهادة الخبراء

لكن شهوداً، بينهم مهندسين وخبراء في صناعة السكر، فندوا ما وصفوه بمحاولات التغطية على فساد واضح، مؤكدين أن الكميات التي وُزعت في الأسواق لا تطابق المواصفات، وتحوي مواد غريبة لا يمكن أن توجد في منتج معد للاستهلاك البشري.

قال المهندس خالد محمد، خبير في صناعة السكر يعمل بمصنع سكر حلفا ويتمتع بخبرة تتجاوز 20 عاماً في المجال لـ(التغيير) إن عملية تصنيع السكر تمر بمراحل دقيقة لضبط الجودة، ولا يمكن أن يحتوي المنتج النهائي على أي أجسام غريبة.

وكان خالد أوضح في شهادته أمام المحكمة، أن “أنواع السكر المنتجة معروفة ومحددة، لكل منها خصائص فيزيائية وكيميائية، ولا يمكن خروج أي شحنة من المصنع دون أن تجتاز الفحص النهائي”.

وأضاف أن “العينات التي عُثر فيها على أعقاب سجائر وشوائب مثل الزجاج والتراب، لا يمكن أن تكون خرجت من المصنع بهذا الشكل، ما يثير الشكوك حول مصدرها أو طريقة تخزينها أو إعادة تعبئتها”.

وأكد أن “السكر المصنع للاستهلاك البشري لا يمكن أن يحوي مواد دخيلة أو ضارة بالصحة، وإن وُجدت، فهي إما نتيجة تلوث بعد التصنيع، أو أن المنتج لم يكن معدًا أصلاً للاستهلاك الآدمي”.

إما المحاضر في جامعة الجزيرة والمتخصص في الهندسة الكيميائية ناصر محمود عبده، فوصف في شهادته الفنية القضية بأنها “قضية فساد واضحة وضوح الشمس”.

مستند صادر عن هيئة المواصفات والمقاييس يتعلق بحجز شحنة السكر الفاسد والبالغ عددها ٢٣٠٠ جوال

وفي تحليله للمستندات الخاصة بالفحص أوضح المهندس الكيميائي، أن التقرير أشار إلى وجود “أجسام غريبة” في العينة وهي عبارة مثبتة بلفظ “Found” وهذا دليل مادي على التلوث.

وأضاف: “وجود أجسام غريبة في السكر مستحيل علمياً إذا خرج من المصنع مباشرة، لأن هناك عمليات غربلة، تنظيف، وضبط جودة دقيقة تمنع ذلك”.

وأشار إلى أن القضية تتعلق بكمية كبيرة بلغت 2700 جوال، منها 400 جوال تم توزيعها وثبت أنها غير مطابقة، و2300 جوال تم فك حظرها كما أكد أن هيئة المواصفات لم تتمكن من مطابقة العينة للمواصفة لأن نوع السكر لم يُحدّد.

وتابع: “التقرير كتب في ملاحظاته: لم تتم المطابقة لعدم تحديد نوع السكر، وبيّن أن الجهة الوحيدة المخوّلة بتحديد نوع السكر ومواصفاته هي مصنع سكر حلفا، مشيرًا إلى معلومات وردت تفيد بأن الكمية قد تكون من السكر المجنب داخل المصنع، والمخصص لأغراض غير استهلاكية مثل الأعلاف، لكنه دخل السوق عن طريق التلاعب.

واختتم محمود شهادته بالتشديد على نقطتين أساسيتين؛ وجود مواد غريبة في العينة، موثقة بوضوح في التقرير الفني، إضافة إلى غياب تحديد نوع السكر، ما جعل قرار فك الحجز غير مستند إلى أساس علمي أو إداري سليم.

وفيما تتواصل جلسات محاكمة المتهمين أمام محكمة جنايات حلفا الجديدة، تتجه الأنظار إلى مدير هيئة المواصفات والمقاييس السابق، الذي نُقل لاحقاً إلى ولاية القضارف بعد فتح البلاغ، ويواجه اتهامات بتمرير شحنة غير مطابقة للمواصفات، إلى جانب تاجر جملة موزع الشحنة وصاحب المخزن ومتهم ثالث متورط في تجزئة السكر وإعادة تعبئته.

مستند

(التغيير) حاولت التواصل مع موظفة المواصفات نعيمة عبد الله، التي تولت حجز شحنة السكر وسحب العينة للفحص، وقد أبدت في البداية استعدادها للإدلاء بإفادتها، لكنها اعتذرت لاحقاً، مشيرة إلى وجود تعليمات مؤسسية تمنع موظفي الهيئة من التصريح لوسائل الإعلام دون تفويض رسمي.

كما سعينا للحصول على إفادة من مدير هيئة المواصفات والمقاييس الجديد بولاية كسلا، الذي أكد عدم صلته بالقضية، موضحًا أنه تم تعيينه مؤخرًا بعد فتح البلاغ، وأن القضية لا تزال قيد النظر أمام المحكمة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.