منتدى الإعلام السوداني
مآب الميرغني
الخرطوم، 9 أغسطس 2025، جبراكة نيوز بينما تكابد الأسواق في السودان ويلات الحرب والانهيار الاقتصادي، أعلن وزير المالية، جبريل إبراهيم، حزمة جديدة من السياسات الضريبية، تهدف إلى “توسيع القاعدة الضريبية”، في محاولة لزيادة الإيرادات العامة. وتشمل خطة جبريل التي كشفها مؤخرا عن استكمال ميكنة النظام الضريبي، وتوسيع نطاق التحصيل الإلكتروني، إلى جانب تطوير قدرات الكوادر العاملة في القطاع الضريبي.
وفي الوقت الذي تشرع فيه حكومة رئيس الوزراء، كامل إدريس، في تنفيذ هذه القرارات وتعتبرها جزءا من الاصلاحات المالية الضرورية، ينظر إليها كثير من التجار وأصحاب الأعمال بعين قلقة، معتبرين أنها قد تزيد من أعبائهم مثلما زادت مع تداعيات الحرب المندلعة لأكثر من سنتين.
في هذا التقرير تستطلع “جبراكة نيوز” آراء خبراء اقتصاديين وتجار ومصدرين حول هذه السياسات، وتطرح عليهم سؤالا جوهريا: هل تصبح الضرائب أداة إنقاذ مالي لـ”حكومة بورتسودان” أم عبئا جديدا عليهم؟
رفض شعبي
رغم أن وزارة المالية تبرر التوسع في المظلة الضريبية بضعف الإيرادات العامة وحاجة الدولة إلى موارد بديلة لتمويل الخدمات، فإن هذه السياسات تُقابل برفض واسع وسط المواطنين. إذ يعتبر كثيرون أن الضرائب المفروضة لا تصب في صالح الخدمات أو إعادة الإعمار، بل تُستخدم لتمويل الحرب.
يقول أحد المواطنين من سكان الولاية الشمالية، لـ”جبراكة نيوز”: “صحيح. الحرب تستنزف اقتصاد الدولة، لكنهم بدلا من إيقافها، يمارسون ضغطا مضاعفا على المواطن من خلال التوسع في الضرائب والجبايات التي لا نراها إلا تمويلا مباشرا للحرب، وما يؤكد هذا هو استمرار الحرب الحالية”، وتابع: “نحن كمواطنين نرفض هذا القرار، خاصة في ظل أوضاع معيشية خانقة، حيث كثيرون بلا رواتب ولا قوت يومي.”
هذا التباين بين الرؤية الحكومية ومعاناة المواطنين اليومية يعكس تحديات تطبيق السياسات الضريبية في سياق الحرب، ويثير تساؤلات حول جدواها وأولوياتها في ظل واقع إنساني متدهور.
خطوة غير مدروسة
يرى محمد الفكي، أحد التجار النازحين من الخرطوم إلى غرب شندي، وكان يعمل قبل الحرب في تجارة السلع الغذائية بسوق أم درمان، أن قرار وزارة المالية بتوسيع المظلة الضريبية جاء في توقيت غير مناسب.
ومضى في حديثه لـ”جُبراكة نيوز” قائلا: “بعد اندلاع الحرب، لم أغادر الخرطوم إلا بعربية كوريلا 2005 بعتها واستأنفت بها العمل مرة أخرى”.
ويؤكد أن السوق بالنسبة لهم كتجار، بالكاد بدأ يتعافى رغم نزوح أكثريتهم داخليا وخارجيا، معتبرا أن هذه الخطوة غير مدروسة وسوف تزيد من تعقيد الواقع الاقتصادي للناجين من الحرب.
عبء غير منظم
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي د. وائل فهمي، أن قرارات وزير المالية بشأن تقوية أداء ديوان الضرائب وتوسيع المظلة الضريبية، تأتي ضمن خطة إصلاحية أوسع لبرنامج إصلاحي تعكف عليه بإصدار قانون جديد يستوعب كافة التطورات، في سياق اتجاه الوزارة لتطبيق النظام المتكامل لمعلومات الإدارة، يسنده مشروع استخدام نظام IFMIS وهو (نظام إلكتروني متكامل لإدارة المعلومات المالية الحكومية)، ونظام TSA وهو (حساب خزانة موحد تديره وزارة المالية أو البنك المركزي، تُجمع فيه جميع إيرادات الدولة وتُدار منه جميع مدفوعاتها إلكترونيا)، وذلك لإحداث الربط الشبكي بين المالية والجمارك والسجل التجاري، بحيث تكون الوزارة ملتزمة بتطبيق برنامج التحصيل والسداد الإلكتروني بعد نجاحه في عملية تحكم المالية في الإيرادات.
وأشار د. فهمي إلى أن البرنامج الحكومي يركز على توسيع المظلة الضريبية لتشمل القطاع غير المنظم. إحكام النظام الضريبي بحيث لا يتم أي إجراء مالي للمكلفين دون إخلاء طرف من الضرائب، مع تشديد العقوبات على المتهربين، لكنه حذر من أن التطبيق العملي لهذه الخطة سيصطدم بعقبات كبيرة لا يمكن معالجتها في المدى القصير.
وأضاف: “رغم أن أزمة الموازنة العامة قبل الحرب الحالية كانت ولا تزال تكمن في جانبها الإيرادي منذ زمن طويل، إلا أن البرنامج المعلن سيواجه العديد من العقبات من حيث التنفيذ. فنظريا، يعتبر هذا البرنامج جيدا بغض النظر عن أوضاع الحرب الحالية من عدمها”.
واستطرد في حديثه لـ”جبراكة نيوز”، قائلا: “بغض النظر عن ما قد يتعرض له البرنامج من مشاكل توفر الكهرباء وشبكات الاتصالات، وتوفر الأجهزة ذات الصلة بالبرنامج على أوسع نطاق ممكن بالبلاد، إلا أن أخطر ما يتعرض له يكمن في ما يتعرض له الاقتصاد السوداني حاليا من احتمال انقسام سياسي بعد إعلان إقامة حكومة في غرب البلاد، مع حصار “الدعم السريع” للفاشر، إلى جانب مناطق سيطرتها الأخرى ذات النشاط الاقتصادي المنكمش بفعل الأعمال العسكرية بها، كل هذا سيعمل حتما على تقليل طموح الأهداف، خاصة كمية الإيرادات المستهدفة لمقابلة النفقات المستهدفة وأولوياتها بالموازنة العامة”.
إصلاح ضريبي محفوف بالمخاطر
وتابع: “من ناحية أخرى، هناك عقبة القطاع غير الرسمي، غير المحدد من حيث الحجم ونطاق الأعمال، وما يتم تداوله داخله من سلع وخدمات، لتحديد حجم الإيرادات الضريبية والرسوم المستحقة للخزينة العامة. إلى جانب هذا، فإن القطاع غير الرسمي، الذي اتسع بصورة غير مسبوقة نتيجة الحرب وتوقف الرواتب، وتضرر القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية، بات المحرك الأساسي للاقتصاد، لكنه خارج نطاق الرقابة والقياس، وهنا تبرز معضلة حقيقية: كيف يمكن للسلطات الضريبية تقييم حجم الذمة المالية لملايين الأفراد خارج النظام المصرفي والقانوني؟”.
ويمضي في حديثه: “في المقابل، يظل التهرب الضريبي داخل القطاع الخاص الرسمي أيضا معضلة أخرى، لاسيما في ظل تدخلات سياسية وحكومية غير معلنة لبعض أصحاب رؤوس الأموال، هذا يضعف من أثر القوانين الجديدة، ويفاقم أزمة الإيرادات في ظل استمرار الحرب والحصار المالي الدولي، أضف إلى ذلك اتساع شبكات تهريب السلع لدول الجوار وعبرها، خاصة الغذائية والمعادن بكميات لا حصر لها حاليا، مما يبدد جزءا كبيرا من الموارد المحتملة ويقوض أهداف البرنامج”. ويردف موضحا: “بالتالي، رغم أهمية البرنامج من حيث المبدأ، إلا أن التحديات التي تواجهه ليست مجرد صعوبة فنية، بل عقبات بنيوية مرتبطة بطبيعة الحرب، وتفكك مؤسسات الدولة، وغياب خطة مالية واضحة لإرادة الاقتصاد في هذا الظرف الاستثنائي”.
ويرى د. فهمي أن البرنامج رغم ضرورته، لن يحقق نتائج ملموسة في المدى القريب ما لم يرتبط باصلاحات أوسع، تمثل إعادة الإعمار وبناء مؤسسات الدولة، وتهيئة بيئة آمنة تسمح بعودة النشاط الرسمي، وتوسيع قاعدة الممولين.
تثقل كاهل الاستيراد
وفي الإطار ذاته، أوضح الأمين العام السابق لغرفة المستوردين، هيثم التجاني، أن قرارات توسيع المظلة الضريبية في البلاد، بالتزامن مع زيادات متتالية في الضرائب والجمارك والرسوم، سوف يكون لها أثر مباشر وسلبي على حركة الاستيراد، وستسهم في ارتفاع تكاليف السلع الأساسية وعلى رأسها الغذاء والدواء.
وأوضح التجاني في حديثه لـ”جُبراكة نيوز” أن “كل زيادة ضريبية تنعكس مباشرة على تكلفة السلع المستوردة، ما يؤدي تلقائيا إلى ارتفاع أسعارها، وبالتالي نقل الأعباء للمستهلك النهائي”، مضيفا أن “الواقع الراهن شهد انسحاب عدد كبير من المستوردين الصغار من السوق، لعجزهم عن الوفاء بالالتزامات الضريبية الجديدة”.
وأشار إلى أن هذا الوضع سيزيد من معدلات التضخم، ويفتح الباب أمام ازدهار التهريب عبر الحدود، نتيجة محاولة التجار تفادي الرسوم المرتفعة، مما ينعكس سلبا على إيرادات الدولة وزاد من فوضى السوق.
وشدد التجاني على أن واحدة من أكبر المشكلات تكمن في غياب التشاور مع أصحاب المصلحة عند إعداد السياسات، إلى جانب تقلب القرارات وتعدد الجهات المنظمة (مثل وزارة المالية، الجمارك، وبنك السودان المركزي)، ما يؤدي إلى إرباك المستثمرين والمستوردين على حد سواء.
وفي ما يخص أبرز التحديات، أشار التجاني إلى أن تذبذب سعر الدولار الجمركي وغياب سياسة واضحة لسعر الصرف، إضافة إلى تعدد وتداخل الجبايات، بما في ذلك غير القانونية، تضعف من قدرة المستوردين على تحقيق أرباح مجدية، هذا بجانب انهيار سلاسل التوريد بسبب الحرب، وانعدام الأمن في الطرق والموانئ، مما أدى إلى تعطيل حركة السلع بشكل ملحوظ.
منافسة غير عادلة
وقال التجاني في حديثه لـ”جبراكة نيوز” إن المستوردين الرسميين يواجهون منافسة غير متكافئة من القطاع غير المنظم، الذي لا يخضع للضرائب أو الرسوم، ما يمكنه من البيع بأسعار أقل.
وأضاف أن بعض المهربين والتجار الموازيين يستغلون المعابر الحدودية ومناطق النزاع لتجاوز الرقابة، مما يُضعف ثقة المستهلكين في جودة السلع المتداولة.
واقترح التجاني عدة حلول لدمج هذا القطاع ضمن المنظومة الرسمية، من بينها منح حوافز للتسجيل الرسمي كالإعفاء المؤقت والدعم الفني، وتبسيط إجراءات الترخيص، وتخفيض تكلفة الدخول للسوق، إلى جانب حملات التوعية المجتمعية، وتشديد الرقابة على المعابر الحدودية.
السلع الحيوية في خطر
وفي ما يتعلق بتأثير الإجراءات الحكومية على استيراد السلع الحيوية، أكد التجاني أن توفر الأدوية أصبح مهددا بسبب صعوبة الحصول على النقد الأجنبي، وتعقيدات التراخيص، كما أدت الرسوم المرتفعة إلى زيادة أسعار الغذاء، ما أسهم في تفاقم الفقر وسوء التغذية.
وأضاف: “لا توجد حاليا آليات فاعلة لحماية هذه السلع أو دعمها”، لافتا إلى أن إعلانات الحكومة بشأن إعفاء بعض السلع الاستراتيجية من الرسوم تبقى غير واضحة أو غير مفعّلة عمليا، كما أن غياب صناديق تثبيت الأسعار أو آليات دعم للفئات الضعيفة يزيد العبء على المواطن والمستورد معا.
واختتم التجاني بالإشارة إلى أن “البيئة الحالية تتطلب إصلاحات هيكلية جادة”، تشمل الشفافية في الرسوم والجبايات، تمكين القطاع الخاص، ضبط السوق الموازي، وابتكار أدوات لحماية السلع الحيوية”.
وأكد أن استمرار السياسات الحالية سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم التنظيم في السوق، ويدفع المستثمرين والموردين بعيدا عن القنوات الرسمية.
من جانبهم يشكو صغار التجار وأصحاب الأعمال في المدن المختلفة من فرض رسوم ضريبية وجبائية جديدة، على رأس كل شهر تقريبا، ويقول التاجر حسن عثمان، صاحب مغلق في شارع الوادي بأم درمان، إن الحكومة تعمل على التضييق عليهم وتدفعهم دفعا للخروج من السوق.
ويتساءل عثمان، في حديثه لـ”جبراكة نيوز”: “لا ندري بالضبط ماذا يريدون، لقد صمدنا أكثر من عامين في ظل حرب قاسية وعنيفة، والآن تشن علينا الحكومة حربا من نوع آخر بفرض الرسوم والضرائب العالية، وكأنها تريد القضاء علينا تماما.. ماذا نفعل؟”.
الأمين السابق لغرفة المستوردين التجاني اختتم إفادته لـ”جبراكة نيوز” بالإشارة إلى أن “البيئة الحالية تتطلب إصلاحات هيكلية جادة”، تشمل الشفافية في الرسوم والجبايات، تمكين القطاع الخاص، ضبط السوق الموازي، وابتكار أدوات لحماية السلع الحيوية.
وأكد أن استمرار السياسات الحالية سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم التنظيم في السوق، ويدفع المستثمرين والموردين بعيدا عن القنوات الرسمية.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء فيه هذه المادة من إعداد (جبراكة نيوز) لتعكس ملامح لحركة الاقتصاد السوداني في ظل الحرب، إذ يشير الخبراء وفئة التجار إلى تزايد المعاناة الاقتصادية التي تفاقم منها السياسات الحكومية.
المصدر: صحيفة التغيير