بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي

 

إبراهيم أحمد البدوى

المشروع الوطني السوداني بين رغائبية “دولة البحر والنهر” وأشواق “ثورة ديسمبر عائدة راجحة”
المقال السابع: هل تقسيم السودان هو الحل؟

دروس مستفادة من الأبحاث الحديثة والتجارب العالميةبروفيسور إبراهيم أحمد البدويوزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابقالمدير التنفيذي، منتدى الدراسات والبحوث الإنمائيةالمقدمةشهد السودان على مدى عقود صراعات عنيفة وتوترات مزمنة أُعتقد أنها ناتجة عن التعدد الإثني والجهوي، وهو ما دفع البعض إلى طرح خيار التقسيم كحل جذري لمعالجة ازمة المشروع الوطنى السودانى. إلا أن تجارب الحروب الانفصالية والدروس والعبر المترتبة على الأدبيات العلمية المحكَّمة التى عالجت مسبباتها ومآلاتها تدعو للحذر فى اطلاق مثل هذه الدعوات بالتسرع والخِفة التى نراها الآن فى ظل هذه الحرب الكارثية. ومن داخل البيت، كما يقولون، فان تجربة انفصال جنوب السودان فى العام 2011 قد كشفت بجلاء عن هشاشة هذا التصور .ابتداءً، بالرغم من أن مثل هذه الدعاوى قد تصدرها مروجوا مشروع “دولة البحر والنهر” العمسيبى، الا أنها أيضاً ليست منسحبة عليهم فقط، فهناك من جمهور ونخب “تأسيس” من يعمد الى تصوير ما يسمى ب”دولة 56″ بأنها مشروع هيمنة تاريخية على الدولة السودانية بواسطة نخب الشمال النيلى.لهؤلاء أيضاً نقول، ان الآباء المؤسسون من نخب “دولة 56” قد أتوا من كل السودان: فالامام عبد الرحمن المهدى، حادى مشروع استقلال السودان، وقادة حزب الأمة من بعده، أكبر الأحزاب القومية السودانية، انداحت أصولهم فى كامل فضاءات البلاد الجهوية والاثنية وحتى الزعيم اسماعيل الأزهرى، القائد الرمز للحركة الاتحادية السودانية، هو من أبناء مدينة الأبيض “أبو قُبة فحل الديوم” الكردفانية. بل ان أحد آباء الاستقلال والذى تقدم باقتراح استقلال السودان من المملكة المتحدة كان النائب البرلمانى من حزب الامة السيد/ عبد الرحمن محمد إبراهيم ( دبكة) من دار فور، ومن ثني الاقتراح كان النائب الاتحادي من شمال كردفان السيد/ شاور جمعة. أما فى مجال القضاء، فرئيس قضاة السودان وأحد المراجع الكبرى فى التراث القضائى السودانى، القاضى محمد أحمد أبورنات هو من بيت عمودية مدينة النهود، ثانى أكبر مدن كردفان الكبرى، وقد تواجد آل أبورنات وسائر عموم شايقية النهود وغيرهم من قبائل الشمال منذ ما قبل الثورة المهدية، وبالتالى هم قبضة أصيلة من نسيج المجتمع الكردفانى. أما أهلى المناصير، والشئ بالشئ يذكر، فقد استوطنوا فى مدن وأرياف النهود وأم روابة والأبيض من قبل الغزو التركى بكثير وبأعداد كبيرة جداً وقد كانت وفود مساهمات الدية تأتى من أبوحمد الى أهلهم الكردفانيين فى تلك المناطق.وحتى فى الحِقَب القريبة كان هناك زعماء كبار من دارفور وكردفان فى الحكومات الديمقراطية مثل الدكتور آدم مادبو والدكتور على حسن تاج الدين والأساتذة أحمد ابراهيم دريج وبكرى أحمد عديل وعبد الرسول النور والدكتور بشير عمر وآخرين. علينا أيضاً أن نذكِّر بأن نخب دارفور “الاسلاموية” قد كانت حاضرة فى مشروع الانقاذ الكارثى وكان لهم القدح المعلَّى فى صفقات ومناصب ذلك النظام الشمولي ومشروع الفساد الزبائنى المرتبط به.تأسيساً على ما تقدم، يجب رفض الخطاب التقسيمى الجهوى والعنصرى أيّاً كان مصدره: الوسط النيلى، أو وسط “خور أبو حبل” الكردفانى، أو فاشر السلطان ونيالا “البحير” الدارفورية، أو حتى بورتسودان وبحرها الأحمر البجاوى.أولاً، الأبحاث الحديثة والدروس والعبر المستفادة:لا يمكن أن يكون التقسيم حلاً يُعتد به الا اذا كان التنوع والتنافر الهوياتى هو السبب الرئيس دون غيره فى اشتعال الحروب والنزاعات وبالتالى فشل المشروع الوطنى السودانى. أيضاً، هذا الزعم بالضرورة يفترض أن التقسيم سيؤدى الى بناء مجتمع منجسم هوياتياً فى سودان “البحر والنهر” من جهه وكذلك رصيفه فى “السودان الغربى”. كما سنرى فان مقاربة هذا الموضوع من التعقيد بمكان ويتطلب توظيف ابحاث النماذج التجريبية باستخدام ما يسمى ب” التجارب العشوائية المضبوطة” (Randomized Controlled Trials: RCT) ليتسنى تقييم دقيق وشامل لهكذا تدخلات (مثل تجربة دواء جديد أو بذور محسنة أو حتى تقسيم دولة) من خلال مقارنة النتائج الفعلية بما كان يمكن أن يحدث بدونها، أي بناء “السيناريو المضاد: .“Counterfactual Scenarioبالنظر الى أن مقاربة مدى نجاعة واستدامة التدخلات والمبادرات الحاسمة فى حياة الأمم والأوطان وحتى الأسر والأفراد تعتبر قضايا بالغة التعقيد، ليس مستغرباً أن نعلم بأن جائزة نوبل في الاقتصاد للعام 2019 قد منحت إلى أبهيجيت بانيرجي وإستير دوفلو (اساتذى الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) ومايكل كريمر (الأستاذ بجامعة هارفارد) لعملهم الرائد باستخدام التجارب العشوائية المضبوطة لدراسة الفقر وفعالية السياسات العامة. فالتجارب العشوائية المضبوطة هي طريقة تشبه إلى حد كبير التجارب السريرية في الطب: فهي توزع الأفراد أو المجتمعات عشوائياً على مجموعتين مجموعة تتلقى تدخلًا (مثل برنامج تعليمي جديد أو لقاح جديد)، وأخرى لا تتلقى (المجموعة الضابطة). ومن خلال مقارنة النتائج بين المجموعتين، يمكن للباحثين عزل التأثير الحقيقي للسياسة أو البرنامج، وتفادى تأثيرات العوامل الأخرى قدر الامكان. لقد غيّر هذا النهج طريقة تقييمنا لما ينجح في مجالات مثل الصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية، مما يوفر أدلة أكثر موثوقية لتوجيه القرارات وتحسين حياة الناس.ولذلك، علينا أن نكون حذرين في تقييم التأثير الحقيقي لدواء جديد أو بذور زراعية أو سياسة اقتصادية جديدة لأن المظاهر قد تكون مضللة، ويمكن أن تؤثر العديد من العوامل على النتائج. وفيما يلي بعض التجارب من الطب والزراعة وسنورد لاحقاً عرض تلخيصى لتجارب الحروب التقسيمية والدروس والعبر المستفادة منها.الطب: مأساة الثاليدومايد (الخمسينيات والستينيات)تم تقديم الثاليدومايد في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي كعلاج للغثيان الصباحي لدى النساء الحوامل. أشارت التقارير المبكرة إلى أنه يعمل بشكل جيد ويبدو آمناً لم يكن هناك سبباً مباشراً للقلق. للأسف لم يقم الأطباء والشركات باختبار الدواء بدقة على النساء الحوامل. واكتشف فيما بعد أن الثاليدومايد تسبب في حدوث تشوهات خلقية بالغة للمواليد، بما في ذلك فقدان الأطراف أو تشوهها. لم تكن هناك اختبارات مضبوطة (مثل التجارب السريرية العشوائية) على النساء الحوامل، لهذا لم يتم اكتشاف التأثير الحقيقي للدواء بسبب التباين الطبيعي في نتائج الحمل. وبحلول الوقت الذي تم فيه التعرف على ضرر هذا الدواء كان أكثر من 10,000 طفل قد تأثروا في جميع أنحاء العالم. الدرس المستفاد من هذه المأساة الانسانية هو أنه يجب علينا استخدام التجارب العشوائية المضبوطة والمتابعة طويلة الأمد قبل اعتماد الأدوية الجديدة على نطاق واسع.الزراعة: تجربة القطن المعدل وراثياً في الهندأدخلت الهند القطن المعدّل وراثياً فى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لمقاومة الآفات (خاصة دودة اللوز). في وقت مبكر، أبلغ المزارعون عن ارتفاع الغِلة وانخفاض استخدام المبيدات الحشرية، وهو ما كان واعداً. كان النجاح الأولي يرجع جزئياً إلى الطقس الجيد والدعم الحكومي، وليس فقط لبذور القطن المعدَّلة. وبمرور الوقت، ازدادت الآفات الثانوية (مثل الذبابة البيضاء) لأنها لم تكن مستهدفة من قبل الجين المكون لهذه البذور، بينما أفرط بعض المزارعين، الذين جذبهم النجاح المبكر، في استخدام البذور مما فاقم من انتشار هذه الآفات. تكمن المشكلة هنا فى الخلط بين المكاسب قصيرة الأجل والفعالية طويلة الأجل. فبدون إجراء دراسات مناسبة تقارن بين المزارع المتشابهة مع القطن المعدَّل وبدونه، كان من الصعب عزل التأثير الحقيقي، حيث لعبت العوامل الاجتماعية والاقتصادية (الحصول على الائتمان والري وما إلى ذلك) دوراً كبيراً. عليه، مرة أخرى، فان الدرس المستفاد لفهم التأثير الحقيقي للبذرة الجديدة تحتاج إلى مقارنات مضبوطة مع مرور الوقت، مع مراعاة الطقس والآفات والتربة وممارسات المزارعين وما إلى ذلك.خلاصة القول: يُظهر كلا المثالين أن الحدس والنتائج المبكرة يمكن أن تكون خادعة. ولا يمكننا فصل التأثيرات الحقيقية عن الضوضاء وتجنب الاستنتاجات الضارة أو المضللة إلا من خلال دراسات دقيقة ومصممة بشكل جيد.ثانياً، أدبيات الحروب الانفصالية ومآلاتها:من أهم الأبحاث فى أدبيات الحروب الانفصالية أو تلك التى تفضى الى تقسيم البلدان المنكوبة بهذه الحروب تعود للبروفيسور نيكولاس سامبانيس، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ييل الأمريكية العريقة. (لقد كان لى تعاوناً أكاديمياً مع بروفيسور سامبانيس خلال العقدين الماضيين، أثمر عن ثلاث أوراق منشورة، لعل أكثرها انتشارها الورقة الموسومة: “لماذا تكثر الحروب الأهلية فى أفريقيا جنوب الصحراء”: .(Why Are There So Many Civil Wars in SubSaharan Africaاستناداً إلى دراستين رائدتين، قدم بروفيسور سامبانس نقداً منهجياً معمقاً لفكرة التقسيم كحل للصراعات الأهلية ذات الطابع العرقي، مستخدماً تحليلاً تجريبياً لبيانات تشمل أكثر من 125 حرباً أهلية، ووجد أن التقسيم لا يقلل بدرجة يُعتد بها من احتمالية تجدد النزاع، ولا يساهم في تعزيز الديمقراطية، كما لا يؤدي إلى خفض ملموس في العنف العرقي المتبقي. بل قد تكون نتائجه عكسية، حيث عادة ما أدى الى قيام دولٍ ضعيفةٍ، تحكمها نخبٌ استبدادية، أو تنشأ فيها أقليات جديدة تواجه تهميشاً، الأمر الذى يؤسس لصراعاتٍ جديدةٍ.تعززت هذه الاستنتاجات بتحليل حالات عالمية مثل تقسيم الهند/باكستان، الذي أدى إلى مجازر دموية وصراع مستمر حول كشمير، وانفصال إريتريا الذي انتهى بنظام استبدادي وصراع حدودي جديد مع إثيوبيا. حتى حالات التقسيم التي أوقفت الحرب، مثل قبرص، أدت إلى نزاع مجمد طويل الأمد. في المقابل، فأن دولاً مثل جنوب أفريقيا وغواتيمالا قد نجحت في الخروج من الحروب دون تقسيم عن طريق تبنى أنظمة حكم ديمقراطية وتسويات سياسية متينة.ثالثاً: تجربة انفصال جنوب السودان… حلٌ ظاهري أم فشل مؤسسي؟جاء انفصال جنوب السودان نتيجة اتفاقات سلام هدفت إلى إنهاء الحرب الأهلية الطويلة بين الشمال والجنوب. غير أن الأمل في تحقيق سلام دائم قد انهار بعد عامين فقط من الاستقلال، حين اندلعت حرب أهلية داخل الجنوب بين مجموعتي الدينكا والنوير. في المقابل، لم ينعم السودان الشمالي بالاستقرار، بل تواصلت حروب دارفور وتدهور الوضع الاقتصادي بفعل خسارة معظم موارد النفط مع بقاء مشروع الاستبداد والفساد المؤسسى لنظام الانقاذ جاثماً على صدر المجتمع السودانى الذى يُفترض، بحسب قادة النظام ومنظريه، أنه قد تخلص من “الانقسام العمودى” بفضل ذهاب الجنوب، بل وتواصل “الانحدار نحو القاع” بعد انقلاب الخامس والعشرون من أكتوبر حتى وصل الحال الى هذه الحرب الوحشية.أظهرت هذه التجربة، والتى هى فى واقع الأمر نكسة وطنية ماحقة، أن التقسيم لم يعالج جذور الصراع، بل أنتج صراعات جديدة داخل الكيانات المنفصلة، وعزز الهشاشة المؤسسية بدلاً من أن يعالجها. فالمشكلة لم تكن فقط في التعايش بين الشمال والجنوب، بل في غياب مؤسسات شاملة ومتماسكة قادرة على إدارة التنوع داخل كل طرف.خاتمة:تكشف التجارب العالمية والأدبيات العلمية المحكمة، بما في ذلك حالة السودان وتجربة انفصال جنوبه، أن التقسيم ليس حلاً ناجعاً للصراعات المتجذرة، بل كثيراً ما يؤدي إلى تفاقمها وخلق مشكلات جديدة أكثر تعقيداً. فبدلاً من رسم حدود جديدة على الخريطة، المطلوب هو إعادة بناء الدولة السودانية على أسس العدالة والمواطنة والمشاركة الشاملة، مع إصلاح مؤسسي عميق يعالج جذور التهميش ويؤسس لعقد اجتماعي جديد. إن التعويل على الحلول الانفعالية والسطحية كالتقسيم لا يعالج التنافر الهوياتي، بل يرسخه في كيانات جديدة أكثر هشاشة واستعداداً للانفجار. إن السودان لا يحتاج إلى تفكيك جديد، بل إلى مشروع وطني جامع يعيد بناءه من الداخل، على قاعدة تنوعه ووحدته معاً.لهذا نقول، عندما يتسيد “اللايفاتيه” ومروجى الفتن والعنصرية و الذين أصبحت لهم فضاءات التواصل الاجتماعى متاحة ومبذولة، عندما يتسيد هؤلاء حوارات القضايا الكبرى فى أمة ما ، مثل قضايا الحرب و السلام، فاعلم أن هذه أمة مأزومة.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.