خالد فضل

 

هل تقديراتنا للزيف زائفة ؟
خالد فضل

خلال ثلاثة عقود دهمني خلالها داء الكتابة الصحفية، نشرت في هذه الفترة آلاف الكتابات،  لكن لم أبرح نقطة التساؤل ، ولم أبلغ بعد مرحلة اليقين وما أظنني بالغها حتى يسترد صاحب الوداعة وداعته ؛ الروح التي تتلبس هذا الطين الكائن على هيئة بشر لا يخلو من عطب هنا وهناك .
أتساءل عن الزيف،  أو ما يتراءى لي كذلك . هل تقديراتي نفسها زائفة ؟ سآخذ أمثلة من وقائع تجاربي الصغيرة :
زميل وصديق صحفي ؛ شخصه محل محبتي وتبدّل مواقفه محل تأملي قبل سخطي , كان يحدّثني عن طريقة شغلهم في صحيفة، صاحبها يقول لهم ،  المرتب ضعيف لكن بديك مساحة تجيب بيها دخل . تلك المساحات من الصحيفة ، مواد تسجيلية مدفوعة القيمة ، عمود صحفي في المدح أو قدح المناوئين بإتفاق مسبق ، ولا تخلو من إبتزازات للمعاندين . رئيسهم كان يستخدم هذه الطرق لكنز المال لبدا .
بعض الذين نراهم الآن ملء شاشات الفضائيات هم من خريجي تلك المدرسة الصحفية . صراحة انظر إليهم بمزيج من الشفقة والاحتقار ، شفقة على أنفسهم التي يخادعونها ، واحتقار لما وضعوا ذواتهم من مواقع .
لن أجزم بالطبع حول زيف ما ينشرون ، ربما كان تقديري للزيف زائفا .
ذات الصديق ، من ضمن رواياته ، بعدما صار رئيس تحرير لإحدى الصحف في الخرطوم ، اكتشف أنّ برمجة الزيارات ومصاحبة المسؤولين في الرحلات الخارجية يصورة خاصة تعتمد على فكرة صاحبي وصاحبك، شبه احتكار لعدد محدد ومعروف باولاء لعوائد الرحلة والنثرية الدولارية غالبا . فانضم إلى ذلك النادي غير هيّاب أو وجل . صراحة تنتابني قشعريرة ، لست تطهريا لهذه الدرجة ، ربما كان تقديري للزيف زائفا .
أحدهم جلس في صالة التحرير المشغولة بعدد كبير من المحررين ، قبالة مكتب رئيس التحرير الذي يكون مواربا ، ثم يبدأ في فاصل من القدح في ذمة ذلك الرئيس متهما إياه بأكل مال السحت ، وخيانة الأمانة ، والغدر بالعهود ، والفساد المالي والأخلاقي . ثم ينصرف بعد أن يفرغ طاقته العجيبة في الذم . ليخرج رئيس التحرير بعده مصرحا بكل نقائص رفيقه السابق خصمه الحالي ، يفغر الصحفيون/ات الأبرياء أفواههم من هول ما يسمعون . لا أدري هل أحدهما ينشر الزيف عن صاحبه ، أم كلاهما يتبادلان نشر الغسيل ، أم تقديري للزيف زائف ؟ المهم أن أحد هذين الصحفيين الكبار على الأقل يحمل قلم النزاهة والوطنية الخالصة يغوص في ضمائر جماعة قحت وتقدم وتاسيس والتغيير الجذري وكل من يمت للثورة بصلة متوجا لهم كخونة وعملاء !!
زميل عزيز ، صار له قراء ومعجبون كثر ، ينتظرون عموده كل صباح ، لما يبدو فيه من جرأة في نقد الفساد والقصور مع سخرية لاذعة . لدرجة تم تصنيفه من جانب بعض الديمقراطيين الطيبين بأنّه شق طريقه بعيدا عن كار العطن ذاك . ذات مرّة ، جاءه زميل آخر ،ابلغه بحماس شديد بأن الوالي فلان الفلاني يتهمك في ذمتك . وقال إنّه يمتلك صورة من الشيك الذي قبضته من مؤسسة شبه حكومية اشتجر بيهما خلاف مشهور . واصطفافك إلى جانب خصومه في تلك الواقعة مدفوع الأجر . كان ظن الزميل الطيب ناقل الخبر أن تلك فرصة لزميله في رد كرامته وشرفه الذي أهدره الوالي على مسمع من حاضرين كثر , قضية جاهزة بشهودها .وفرصة لرد الإعتبار لمهنة الصحافة والصحفيين . قال لي الزميل الصديق ، إنّ زميلنا المعني ، لم ينبس ببنت شفة ، فقط طنطنة خافتة لم يلتقط مها سوى .. سيبو ياخ.. وبالفعل سابو .. دبيب في خشمو جراداية ولا بعضي .. هل كات مواقف ذاك الصحفي زائفة ، أم تقديري للزيف هي الزائفة .. فهاهو صديقنا يملأ الآفاق مستندا على وهج الكرامة ، وبداعي الوطنية الطازجة ،لا يوفر أحدا ممن لحقت بهم شبهة مواكبة الثورة أو تأييدها .
صحفي مرموق ونقابي ، يزعم بعضهم بأحقيته في ذلك الموقع الذي حازه من أيام البشير ، وغاب عنه لفترة عمر حكومة الثورة (2019_2021م) يعود إليه الآن محمولا على أسنة بنادق الكرامة . برّني صديق حصيف بمقال لذلك الكاتب منشور في بحر العام 2019م ، في صحيفة الصيحة يمجّد فيه الدعم السريع ، ويهاجم منتقديه . لأنهم دعوا لطرده من الخرطوم . ويلمح إلى دوافع العنصرية وراء تلك الدعوات . الآن ، ذات الصحفي ،يتولى مهام التبرير ومساندة حرب الكرامة ضد الدعم السريع . هل موقفه السابق قبل ست سنوات فقط زائف ، أم موقفه الجديد . أم الفرضية التي لا تغيب عني أبدا ، تقديري للزيف هو الزائف ؟ الله غالب .

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.