رباب محمد الحسن


رباب محمد الحسن

في 9 أكتوبر 2025، أثار بافيل دوروف، مؤسس تطبيق تلغرام، جدلاً واسعًا بمنشوره على منصة إكس، حيث أعلن أن “عهد الإنترنت الحر انتهى”، محذرًا من تحول الإنترنت إلى أداة سيطرة حكومية بدلاً من فضاء لتبادل المعلومات الحرة. جاء تصريحه في سياق انتقاد تدابير حكومية في دول غربية، مثل الهويات الرقمية في المملكة المتحدة، فحوصات العمر في أستراليا، وقانون ” Chat Control” في الاتحاد الأوروبي، معتبرًا إياها تهديدًا للخصوصية والحرية التعبيرية. لكن، هل كان دوروف محقًا في تحذيراته؟ أم أن تصريحاته مبالغ فيها وتخدم مصالحه الشخصية؟ في هذا المقال، نناقش الحجج المؤيدة والمعارضة لتصريحاته
لماذا قد نكون مع تصريحات دوروف؟

تصاعد المراقبة الحكومية يهدد الخصوصية

دوروف يشير إلى تدابير ملموسة تُقوّض الخصوصية الرقمية. على سبيل المثال، قانون “Chat Control” في الاتحاد الأوروبي، الذي يُلزم فحص الرسائل الخاصة قبل التشفير، يُعتبر من قبل خبراء التشفير، مثل 500 عالم وقّعوا على رسالة مفتوحة، تهديدًا للتشفير النهائي (endtoend encryption). هذا التشفير هو حجر الزاوية في تطبيقات مثل تلغرام وواتساب وسيغنال، ويحمي المستخدمين من التجسس الحكومي أو القرصنة. إذا تم تمرير القانون، فقد يُخلق ثغرات أمنية تُستغل ليس فقط من الحكومات بل من مجرمي الإنترنت. هنا، يبدو تحذير دوروف مشروعًا، خاصة مع دعم شخصيات مثل فيتاليك بوتيرين وإيلون ماسك، الذي حذر من “المراقبة الجماعية”.

قمع حرية التعبير تحت ذريعة الأمان
دوروف يسلط الضوء على قوانين غامضة تُستخدم لقمع الرأي. في المملكة المتحدة، أُبلغ عن اعتقال 30 شخصًا يوميًا في 2023 بسبب “رسائل مسيئة”، وفي 2024 سُجن 118 بسبب منشورات تحريضية. في ألمانيا، مداهمات الشرطة لما يعرف بـ “ترولز الإنترنت” أثارت انتقادات بأنها تستهدف النقد السياسي. هذه الأمثلة تدعم وجهة نظره بأن الحكومات تستخدم ذرائع مثل “السلامة” أو “حماية الأطفال” لتوسيع الرقابة، مما يخلق “تأثيرًا مبردًا” يحد من حرية التعبير. كمستخدمين، قد نشعر بالقلق من أن نقد المسؤولين قد يُعرضنا للملاحقة.

دوافع دوروف الشخصية تعزز مصداقيته
اعتقال دوروف في فرنسا عام 2024 بتهم تتعلق برفض تعاون تلغرام مع السلطات يُظهر أنه يواجه تداعيات مباشرة لدفاعه عن الخصوصية. في مقابلته مع تاكر كارلسون، أكد أنه لن يتنازل عن مبادئه حتى لو كلفه ذلك حريته. هذا يجعل تحذيراته تبدو نابعة من تجربة شخصية، وليست مجرد دعاية لتلغرام. كما أن نجاح حملات مثل “Fight Chat Control”، التي أوقفت تصويت القانون الأوروبي مؤقتًا، يُظهر أن هناك دعمًا شعبيًا وعلميًا لمخاوفه.

الإنترنت الحر كإرث ثقافي
دوروف يصف الإنترنت بأنه “وعد بتبادل المعلومات الحرة” بناه الآباء، وأن جيلنا قد يكون الأخير الذي يتمتع بهذه الحرية. هذه الرؤية رومانسية ولكنها تتردد صداها مع الكثيرين الذين يرون الإنترنت كفضاء للإبداع والنقاش الحر. تدابير مثل الهويات الرقمية في المملكة المتحدة أو فحوصات العمر في أستراليا قد تبدو بريئة، لكنها تُمهد لمراقبة شاملة، مما يدعم فكرته عن “عالم ديستوبي مظلم”.

لماذا قد نكون ضد تصريحات دوروف؟
تثير تصريحات بافيل دوروف، مؤسس تطبيق “تلغرام”، جدلاً واسعًا بعد تحذيراته من تحول الإنترنت إلى “أداة سيطرة نهائية”. إلا أن كثيرين يرون في خطابه قدرًا من المبالغة والدرامية التي قد تثير الخوف أكثر مما تعزز النقاش البنّاء.
أولًا: المبالغة في تصوير الواقع
يتجاهل دوروف التقدم التشريعي في مجال حماية البيانات، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي، التي عززت خصوصية المستخدمين وقيّدت استغلال بياناتهم. كما أن تجميد مشروع “Chat Control” في أكتوبر 2025 يعكس وجود مقاومة ديمقراطية حقيقية لأي محاولات رقابة مفرطة. لذا، بدلاً من الحديث عن “نهاية الإنترنت الحر”، يبدو أننا أمام مرحلة توازن جديدة بين الحرية والأمان.
ثانيًا: الانتقائية في النقد
يركّز دوروف انتقاداته على الغرب، بينما يتجنب الحديث عن الرقابة في دول أخرى مثل روسيا “بلده الأم” التي حظرت “تلغرام” بين عامي 2018 و2020 بعد رفضه تسليم بيانات المستخدمين، في حين تُمنع أيضًا منصات كبرى مثل تويتر وفيسبوك. هذا الصمت الانتقائي يُضعف مصداقيته، خاصة أنه يعيش في دبي، التي تفرض بدورها قيودًا على بعض خدمات الإنترنت. لذلك، يُنظر إلى خطابه أحيانًا كجزء من صراع مصالح بين الشركات التقنية والحكومات أكثر من كونه دفاعًا مبدئيًا عن الحرية.
ثالثًا: مرونة التكنولوجيا
التاريخ الرقمي يثبت أن الإنترنت قادر على التكيّف مع محاولات السيطرة، فكل وسيلة رقابة تفرز أدوات مضادة مثل الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) وتقنيات التشفير المتقدم. هذه المرونة تجعل فكرة “التحكم الكامل” في الإنترنت شبه مستحيلة، وتؤكد أن التطور التكنولوجي نفسه هو آلية مقاومة طبيعية لأي نزعة للهيمنة.
رابعًا: نمو اللامركزية
تتجه التكنولوجيا اليوم نحو حلول لا مركزية مثل Web3 وتقنيات البلوك تشين (Blockchain)، التي تُوزّع السلطة على المستخدمين بدلًا من تركيزها بيد جهة واحدة. هذه البنية اللامركزية تجعل من الصعب على أي حكومة أو شركة كبرى التحكم الكامل في تدفق المعلومات أو احتكارها. ومع توسع هذه التقنيات، يصبح من الممكن بناء فضاء رقمي أكثر حرية واستقلالًا عن الهياكل المركزية التقليدية.
خامسًا: الديمقراطية الرقمية
لا تزال القوانين المنظمة للمحتوى الرقمي في الدول الديمقراطية تخضع لنقاشات علنية ومداولات سياسية، وغالبًا ما يكون هدفها المعلن حماية المستخدمين من التضليل وخطاب الكراهية، لا فرض السيطرة. وهذا يُظهر أن المسار الرقابي لا يسير في اتجاه واحد، وأن هناك توازنًا مستمرًا بين الحماية والحرية، حتى وإن بدا هذا التوازن هشًّا أحيانًا.
سادسًا: وعي المستخدمين
أصبح المستخدم اليوم أكثر إدراكًا لقيمة الخصوصية والأمان الرقمي، ما يمكّنه من الضغط على الشركات والحكومات لاعتماد سياسات أكثر شفافية ومسؤولية. هذا الوعي الشعبي هو السدّ الأول في وجه أي محاولة للهيمنة على الفضاء الإلكتروني، كما أنه يدفع نحو نمو ثقافة رقمية نقدية ترفض التسليم لأي سلطة مطلقة، سواء كانت حكومية أو تكنولوجية.

الخلاصة: تصريحات بافيل دوروف حول نهاية الإنترنت الحر تلقي الضوء على قضية معقدة. من ناحية، هو محق في الإشارة إلى قوانين قد تهدد الخصوصية وحرية التعبير، خاصة مع اتجاهات مثل فحص الرسائل أو الهويات الرقمية. من ناحية أخرى، الحاجة إلى مكافحة الجرائم الإلكترونية تجعل بعض التنظيمات ضرورية، كما يرى معارضوه. بدلاً من الانحياز، يبقى السؤال: كيف يمكن تحقيق الأمن دون التضحية بالحريات؟ هذا الجدل يتطلب نقاشًا عامًا وشفافًا لضمان أن الإنترنت يظل فضاءً للحرية والأمان معًا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.