اخبار السودان

هكذا الإبداع والمبدعون !!!

سيف الدين خواجة

سيف الدين خواجة

لبس الفتى الطاشري أجمل ما عنده ، وتعطر بأجمل ما لديهم مع دعاء الأهل بالتوفيق ، وتوجه للمعاينة ، وقلبه يخفق، يخيل إليه أن كل الناس تسمع خفقاته ، وأن الكل ينظر إليه باتجاه قلبه الذي بدا وكأنه يريد أن يخرج من فمه ، وقطرات العرق تتصب كقطرات الندى على جبينه الوضاح مع وسامة معتدلة ، لكنها جذابة ، وهو إلى ذلك لا يدري مصيره ، وما تخبئ له الأقدار ، مستعينا بالله العلي العظيم ، وفي كل لحظة يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وهو لا يدري سره فيه ، والذي يحتاج فقط لمن يكتشفه!!! .
يومذاك كانت دولتنا بها إداريون يتمتعون بالكفاءة العلمية ، والخبرة الكافية ، وبذائقة فنية عالية ودقيقة وإحساس أبوي ، وإبداع في كيفية التعامل بفن وإبداع مع اللوائح الإدارية وحاسة شم رقيقة نفاذة تنفذ للجوهر ، وتستخرج الجواهر من جوف الخوابي والدر المكنون في المحار ، حتى أنك تحتار من أي العوالم هؤلاء ، الذين يديرون مجرى الحياة بنور بصيرة يحير الألباب ، والفتى الوسيم ساهم ينتظر دوره “يا صابت يا خابت”، يتأرجح بين الأمل واليأس ، فإذا بصوت ناعم ينادي : “محمد خوجلي صالحين”، كأنه لم يسمع شيئا ، تكرر الاسم ثلاث مرات حتى لكزه جاره ، فالتفت : ألست محمد خوجلي صالحين حسب الأوراق.
فقام وهو يرتعش ومتردد ، حقيقة هذا أم خيال؟ مشى تجاه الصوت بخطوات مضطربة شيئا ما باتجاه الصوت ، فسمع : تفضل.
وكأنها إنذار له بأن لا يضيع وقت اللجنة ، سأله الرجل الفخيم  محمد عامر بشير فوراوي بصوت فيه من الهيبة ما يسقط أي فارس:
ما اسمك؟
قال بلعثمة خفيفة وبصوت مميز ومخارج حروف سليمة :
محمد خوجلي صالحين.
ابتسم الرجل الأبوي ابتسامة خفيفة مهدئا من روعه:
ماذا تريد أن تشتغل؟
رد الشاب بهدوء : أريد أن أشتغل كاتبا حسب الإعلان في الجريدة.
هنا صمت الرجل المبدع وصوت الفتى يتغلغل في وجدانه ، وكأن هناك شيئا ما ، يهزه في هذا الصوت قائلا في نفسه :
خسارة أن يضيع هذا الصوت دون أن يعطر سماوات أثير بلاده.
فقال له : هاك اقرأ هذه القطعه
قرأها محمد خوجلي بثبات أكثر من سابقه ، وما كاد ينتهي من القراءة حتى لاحظ محمد خوجلي أن الرجل الفخيم يتكلم علي الهاتف ، والشاب يقول في نفسه : الحديث عني (كمان مصيبة جديدة ولا شنو )
أهلا أبو عاقلة يا أخي جاييكم محمد خوجلي صالحين إن شاء الله يصلح معكم.
ثم أخذ ورقة وكتب عليها نفس العبارة مع اضافة إجراء الاختبارات اللازمة ، ثم قال له خذها : يا ابني واذهب للإذاعة بأم درمان حظا أوفر !!! .
هكذا هي اللحظات الحاسمة والذكية تأتي في العمر مرة واحدة ، ذهب لللإذاغة ودخل، ولم يخرج منها إلا هو وزير للإعلام!!! .
في واحدة من خبطات نميري السحرية وخلطه في الأسماء مع سكرتاريته ، أراد أن يقول في تعديل وزاري: الصلحي فقال صالحين والصلحي صاحب واحد من أجمل السهرات التلفزيونية يوم أن كانت تتنافس السهرات علي الجمال وخطف المشاهدين ، منها “تحت الأضواء”، وحمدي بولاد ذلك الفتى ، وبصوته المخملي، و”حساس محمد حساس” بسحره وألقه الخاص في طبيعة الأشياء ، و”مطرب وجماهير” وكابلي والحجاز في “الليالي الهادئة”، و”بيت الجاك” مع الصلحي سحر ومهارة ، وخفة ورشاقة حتى أنك لا تحس بالزمن قد سرقك على حين غرة ، هكذا كان التلفزيون يستقطب المبدعين من زوايا الوطن !!! .
فوجي نميري عند أداء القسم بصالحين فاشار للجماعة حوله : أين أبو دقن وصلعة خفيفة؟ عدت اللحظات سريعا ، ثم قال الرئيس : أنا قلت بتاع لندن.
وبعد شهر حدث تعديل وجاء الصلحي وكيلا لوزارة الإعلام !!! .
مرت الأعوام ، وفي ذات أصيل أصيل بمنزل أصيل به من عبق العبقرية عطر الأمكنة ، وما يفضح سر الجمال بالدوحة ، جلست بجوار إبراهيم الصلحي ، والراحل الكابلي يشدو مديحا وغناء مع ثلة ذكر الله بقلوبهم يجري كما تجري الدماء تدفقا اريحيا بهجة ومسرة ، ونشوة الألحان تجري في ود ، مما نغسله بالماء والثلج والبرد تزيل الأدران ، ووعثاء الغربة بين لحن شجي ، ودمع هتون والراحل القامة عبدالمنعم المكي حين يسمع :
والخيام قد تبرجن واعلنا الهيام
يهتف : الله الله كدرويش معلق بقدمي مولاه معشوقك لكني سلطان العشاق. هذا من نشوة جرت في الحاضرين زلالا ، هنا يهف الانتشاء بالفنان الرائع الصلحي ليقوم ، ويقبل رأس الأروع الآخر الكابلي ، قائلا : (أنعشتنا أنعش الله روحك).
ثم التفت إلي بروح الفنان الباذخ بروحه المرحة الوثابة قائلا (الليلة ممكن اشتغل حتي طلوع الشمس ، وأذهب للمكتب أواصل عملي).
هكذا هي روح الفنان الوثابة دوما ، والتي كثيرا ما نضيق بها ، ولا نحتملها لهذا قال جكيم هذه الأمة الطيب صالح مرة : “الابداع نار ونور ، البعض يحتمله فيعيش عمرا مديدا مثل نجيب محفوظ ، والبعض يحترق ، فيحترق عمره مثل يوسف إدريس”.
وعلي ذلك مع ظروفنا غير المستقرة وشمسنا المحرقة هلك التيجاني وجماع والناصر وغيرهم كثير !!! .
صمت قليلا ، قال الصلحي : وهو ساهم حين تم تعييني وكيلا للوزارة اهديت الوزارة احد عشر لوحة مقابل احد غشر جنيها فقط مع ان قيمة الواحدة تساوي مئة ألف جنيه استرليني ، وهذا ذكرني الرياضيات الحديثة التي تقول أن سبعة عشر تساوي ثمانية عشر بتوحيد المقام لقبول القسمة علي الارقام 2و9و3، ثم أخذ الصلحي تنهيدة بهواء ساخن كلها حسرة ثم قال: “بعد خروجي من المعتقل توجهت للبنك لأرى ما بحسابي حتى اتصرف علي ضوئه ، فوجدت راتبي ينزل بكل بدلاته في مفاجأة مدوية”، فقلت (ان السودان بلد مجانين) .
فاستدركني الأخ الطيب صالح قائلا : (لا يا شيخنا شيخي في الضلالة والهدي السودان من أحسن بلاد الله ، والسودانيون من أحسن خلق الله حكام السودان هم المجانين ، وعجيب أمة كهذه تنتج حكاما كهؤلاء)، ثم دلفت للوزارة لأرى مصير لوحاتي من تلك اللوثة التي أصابت النظام والناس من حوله ، فوجدت لوحاتي محطمة في غرفة مهجورة تستعمل فرشا يفطر عليها ، فضربت كفا بكف متحسرا عليها ،طوعلي ضياع ذائقة الفن والجمال، فكيف لا نتحسر على ما هو من ليال حالكات !!! .
في حياتي لا أعرف أحدا أحب هذا الوطن مثل الطيب صالح ، والفنان الصلحي ، ويكفي دليلا على ذلك ما قاله لنا الطيب صالح في آخر زيارة له قبل رحيله حين سألناه عن الصلحي قال: (ودعته هاتفيا وقال سلم على الجماعة وقول لهم أنا كحنت البلد دي)!!!
الفنان لا يبدع ولا يرتاح إلا في بيئته ، ولو ساد الوعي بقيمة الفن في بلد حضارته قامت على الفن ، فكيف يتأتى ذلك ونحن لم توحدنا حتى آثارنا !!!

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *