هدنة إنسانية تطيح بالسردية العدمية

خالد فضل

(1) من تجاربي الشخصية الصغيرة، وعلى أيام الطلب في جامعة جوبا سنوات منتصف الثمانينات، اندلع ذات مرّة شجار سياسي بين طلبة تنظيم الجبهة الإسلامية القومية يومها (جماعة الدعوة الإسلامية) وطلبة تنظيم جوسا؛ وهو اختصار لرابطة الطلاب الجنوبيين في جامعة جوبا.

عبر مكبر صوت يدوي أطلق أحد عناصر الإسلاميين نداء الجهاد، ثم طفقوا يبثون وسط الطلبة الشماليين دعاية أنّ الجنوبيين يستهدفونهم عرقيا وجهويا ودينيا، واستطاعوا تضليل بعضهم ممن لم يكونوا أعضاء في التنظيم فحملوا عصيهم معهم وجمعوا أكوام الحجارة استعدادا لخوض المعركة نيابة عن الكيزان.

شخصيا كنت أفهم أسباب العراك، وشاهد عيان على كل ملابساته منذ لحظة اندلاعه الأولى وتفاصيلها وأعرف الزملاء الذين بدأت معهم الشكلة. لم يكن في وسعي وزميل آخر أن نتدخل كـ(حجازين) لأن الطرفين كانا يحملان العصي بينما كنا نحمل دفاتر المحاضرات والأقلام نتأهب لحضور محاضرة مسائية مع أستاذنا الراحل د. عبد المنعم محمد عثمان عليه واسع الرحمات.

أتذكر بوضوح تفاصيل ذلك اليوم الآن رغم مرور ما يقارب 40 عاما عليها لأن سنوات السودانيين مع الإسلاميين ظلت تدور بتفاصيل يوم واحد مكرر رغم حساب السنين، وفي تطبيق حرفي لمقولة ما أشبه الليلة بالبارحة.

ومن التفاصيل ذات الدلالة على خلفية تلك الوقائع؛ استدعاء الشرطة لفض الاشتباك وتأمين مرافق الجامعة، كنت حاضرا وزميلي ذاك لحظة ظهور مدير الجامعة أستاذنا البروفسور محمود موسى محمود واستدعائه لسكرتير اتحاد الطلبة المرحوم أروب دينق، ومبادرته بسؤاله باللغة الإنجليزية ما ترجمته (أروب كيف يمكننا السيطرة على هذه الأوضاع المتوترة؟) فجاء طلب استدعاء الشرطة من المسؤول الطلابي بجملة إنجليزية واحدة (باي بوليس) لاحقا سأكون قد تعلمت من تلك اللحظات عدة دروس، من أهمها ألا أركن إلى تفسير طرف من أطراف أي نزاع دون ترو وتمحيص وفحص وإحاطة بالموضوع وتجنب الانقياد بعقلية القطيع، ثم أني تعلمت مفهوم المسؤولية عن حماية من تؤول إليك مسؤوليتهم من الناس والأشياء، ومعنى المشورة واستمزاج الرأي بين المسؤولين القياديين ثم سرعة اتخاذ القرار.

دخلت الشرطة بعد قليل وقوامها عناصر من الجنوبيين بالطبع، وتم عقد اجتماع مباشر بين قادة التنظيمين المتعاركين بتسهيل ووساطة من إدارة الجامعة مديرها وعميد الطلاب وبعض عمداء الكليات، يمكن تكون لجنة رباعية أو خماسية لست متأكدا بالضبط. الأهم أنّه بعد ساعتين أو ثلاث ساعات خرج الوسطاء والطرفان في مؤتمر صحفي شهده معظم طلبة الجامعة وفي ساحة النشاط أعلن عن اتفاق وهدنة إنسانية لوقف العراك واسعاف الجرحى من الجانبين، وعودة الهدوء لأرجاء الجامعة وتخفيف التوتر وأجواء الشحن وأدبيات الحرب وخطابات الكراهية ونداءات الجهاد الإسلامي وغيرها من سرديات جهوية وعنصرية، وقد خاطب ممثل لكل طرف ذلك اللقاء مؤمنا على ما تم من اتفاق، ختم بروف محمود بالثناء على الطرفين لاستجابتهما لنداء العقل، وقال ممازحا أبنائه الطلاب: يلا قوموا أمشوا السفرة العشا ما يبرد. فذهبنا وتناولنا الفول بالجبنة والتحلية طحنية سعد، وحملنا لزملائنا المجرحين أطباقهم في غرفهم ليتعشوا هنيئا مريئا.

(2) وإذ انقشع عنف ذلك المساء بدخول قوات حفظ السلام الشرطية، وسرت الهدنة، وتوقف نزيف الدماء، ومما لا يمحى من ذاكرتي أبدا أنّ أحد زملائنا الجنوبيين وكان يشغل منصب السكرتير الأكاديمي في لجنة الاتحاد كان يحاول معنا اسعاف أحد الزملاء من طلبة تنظيم الإسلاميين أصيب بجروح وكنا نحمله صوب سيارة الإسعاف، فجأة جمع ذلك المصاب رجله ثم ركل بها من يسعفه في بطنه حتى تأوه وأضطر للتوقف عن المشاركة في حمله.

عندما أحاول مقارنة ذلك الموقف بما تلاه من سنوات عجاف عقب سيطرة الإسلاميين على أقدار الشعب والبلاد، تحضرني وقائع طرد منظمات الإغاثة ومنع دخول المساعدات وركل اليد التي تقدّم العون. إنهم سلالة واحدة ممتدة من ِرْجلٍ تركل المغيث إلى أصابع رئيس تمهر بالتوقيع ركل من يعين.

بعد مرور بضعة أيام أصبحنا ذات صباح فإذا بعناصر من القوات المسلحة تحتل أرجاء الجامعة، والشرطة تنزوي في ركن قصي، قيل في التفسير إنّ معلومات استخباراتية أفادت بوجود تنسيق مع حركة قرنق لتدمير منشآت الجامعة مما استلزم دخول الجيش، قلنا حسنا فمهمة الجيش الحماية على كل حال، لكن الأمر تكشّف عندما نصب عناصر الاستخبارات ارتكازهم في بوابات الجامعة يفتشون الطلبة الداخلين والخارجين ويعتقلون بعضهم ممن كانوا في قائمة جاهزة مكتوبين، والقائمة تحمل أسماء طلبة وطالبات من الناشطين السياسيين الديمقراطيين، الله!! ما الأمر إذن.

وقتذاك كان قد وصل للتو فيلق ضخم قادما من الشمال باسم لواء الردع يقوده المرحوم محمد الأمين خليفة وأظن رتبته عقيد، ومن ضمن ضباطه يونس محمود الذي كان يؤم منتديات جماعة الإسلاميين وينشدهم أشعاره إياها. هل لاعتقال الطلبة الديمقراطيين علاقة بالإشارات الختامية لهيمنة الإسلاميين على القوات المسلحة؟ هل كانت تلك إرهاصات لما سيحدث بعد سنتين؟ لقد تم إقصاء الشرطة وهي تمثل السلطة المدنية ليحتل الجيش الجامعة ويمارس التفتيش والاعتقال في حق الناشطين السياسيين، فما الانقلاب العسكري إذا كانت تلك الممارسات تحت زعم التأمين وهي بالحق ممارسات تمكين؟ مرّة أخرى ما أشبه الليلة بالبارحة حد التطابق رغم مرور السنين.

(3) هل تراني بعدت عن هدنة الرباعية لدواعٍ انسانية؟ لقد أطاحت هدنة بروف محمود بسردية الجهاد يومها، ريثما يدبر التنظيم تدبيرا جديداً نفّذه عبر الجيش الذي بدت تظهر عليه علامات التمكين.

والهدنة التي يتداول خبرها اليوم تنهي سردية ذات التنظيم وتطيح بشعارات (مواصلة الحرب) ورفض الجلوس مع المليشيا الإرهابية، باختصار (طرشقت) البالونة المنفوخة بالهراء والتضليل وسيل الأكاذيب وشعار بل بس وحتى هتاف كامل إدريس في شوارع أسمرا عاش أسياس حاضنة المليشيات ودرع الجاكومي المتين!!  ولو إلى حين، ريثما يدبرون حيلة أخرى ويفترعون سردية مغايرة لمواصلة التضليل. لكن عيون الرباعية ومراكز البحث والاستخبارات العالمية ترصد بدقة وتحلل، وقد قال كل العالم تقريبا، كفى لسيادة حقبة جماعات الإسلام السياسي فقد استنفدوا كل الأغراض، وقدموا الصورة الكاملة لما ظلوا يصدعون به لما يقارب مائة عام منذ ظهور أول أدبيات الأخوان المسلمين. فكان الحصاد الهشيم؛ بلد منكوب اسمه السودان كان محل تقدير فصار إلى هوان، وشعب عظيم متعدد الأعراق والثقافات والأديان صار إلى فراق، مثلما كانت تجربتهم في غزة الفلسطينية بوار وتحطيم يحتاج إلى إعادة إعمار، مثلما همو ذئاب منفردة تمارس الإرهاب باسم داعش أو القاعدة أو ما تسموا به من ألقاب ولو (طالبان) المحصلة لحقبتهم، هي ما لا تحتاج إلى بيان، لكن بيان الرباعية كان صريحا (لا مستقبل لهم في الاستمرار والسيطرة على مقاليد السلطة والحكم في سودان ما بعد حربهم حرب الخراب). وستبدأ السردية المقابلة، وطن للسلم أشرعتو ضد الحرب أسلحتو عدد ما فوقو ما تحتو سند للإيدو ملوية، وأنعم بها من رؤيا شاعر الشعب ومعلمه الشريف محجوب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.