هاشم صديق.. شـقـشـقـات خـارج الـقـفـص السودانية , اخبار السودان
هاشم صديق.. شـقـشـقـات خـارج الـقـفـص
طلال دفع الله
“هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحداً عليه، ولا نقول يجب على أحد قبوله بكراهية”
(أبو حنيفة، الانتقاء)
ثمة، في مجموعة الأستاذ هاشم صديق الشعرية الموسومة بـ (انتظرى)، ثمة عدة أمور لابد وأن تلفت عنق العقل والوجدان والتأمل وأحداقها، وهي ستشكل بذلك محطات لا بد من التوقف عندها بكل هذه الحواس والأحاسيس المستثارة.
الأمر الأول، هو جغرافيا الزمان والأمر الثاني جغرافيا المكان والأمر الثالث اللونية الشعرية، وأخيراً المقدمة التي كتبها الشاعر نفسه.
جغرافيا الزمان والمكان:
تاتي المجموعة فى زمان تتهيأ فيه البلاد للاحتفال بمهرجان ثقافى يُعنى (بحسب التسمية) بثقافة جزء مقدر من أهل السودان وتغييب ثقافات أجزاء أخرى من شعب الوطن.. وهو احتفال، شاء المرء أم أبى، يسمه أول ما يسمه السياسي بأدواته الاعلامية.. التنفيذية والامنية المراهنة على سيادة تيارها الثقافي السياسي والتيارات الأخرى الموالية لها أو المتعايشة معها أو الساكتة عنها، مستصحباً السياسي كل ادواته المتاحة ومستغلاً لها فى صورة تشي بأحاديته، واعتقاده الواهم بتمتلاك الساحة الثقافية ومن عليها، أو على اقله تغييبه لمن يرى أنه يسبح عكس تيار نهره الخاص.
إذن، وفي مثل هذا الظرف الزماني/ المكاني وتحت وطأته القامعة بقوانينها السارية أو المجمدة وقتياً، بينما هي على أهبة التحريك متى ما رأى السياسي ذلك، فى هذا الظرف الزماني/ المكاني تحديداً، تخرج المجموعة للناس بالذي احتوى من تضاد فلسفي فكري مبدئي وسياسي.. ومن شاعر جرَّب وخبـِر السياسي وأدواته بمختلف اشكالها، ولهذا، وبكامل وعيه وعلمه بالمغبات التي ستنتج، ألقى، وبكل ما أوتي من استنارة ووعي، بكلمته التى تـُعد ـ وبكل المقاييس ـ مناوئة لمشروع قائم ومدجج بكامل أدواته القمعية، بل وفى أدق فتراته وأشدها حرجاً، وترْكِ نظامِه لباب المعتقل موارباً. فى مثل هذا المناخ الزماني/ المكاني المتقلب بين اقصى درجات اللهب وأدنى درجات الزمهرير، تكون اكثر الظواهر سيادةً هى تساقط كثير من الأوراق من على أغصان شجرة الوطن الإبداعية النضالية المصادمة، التى كتب عليها قدرها أن تقاوم، وفي بسالة نادرة، كل أشكال الرياح والأعاصير بمختلف تسمياتها القهرية، الاستعمارية الأجنبية والوطنية، التي قدرها، أيضاً، أن تظل ظليلة ومثمرة لشعبها، من لدن خليل فرح وما قبله، وصولاً إلى الدوش وهاشم صديق ومحجوب شريف ومحمد الحسن سالم حميد ومحمد طه القدال وكمال الجزولي والكثير من الحاضرين، الذين تجذروا فى الوطن فتجذر فيهم الوطن، كما والكثير من الآتين. فالذى جعل عطر خليل فرح والدوش نافذاً عبر الأزمنة، هو نفسه الذى يعطي الخلود لعطر الآخرين فى حواس شعبهم، طالما ظل نقياً وغير ملوث.
اللونية الشعرية:
- أطول من السور القلم
تعظيم سلام
للكلمة.. الما بتسبح للمكوك
ولي كل والى أكان ظلم.
أعظم من الوطن.. الوطن.
(من القصيدة الاولى للمجموعة “برولوج”)
هذا هو الرهان الذى سار عليه وإلى الراهن الشاعر خلال مسيرته الإبداعية الفكرية بمختلف تنوعاتها، وفى مد متصاعد، لم يسجل خط بيانه نكوصاً أو مهادنة، لا مع الذات ولا مع الآخر.
*انتظري
ورد الدم فى الشارع فتح
اليأس اتضارى
ودنقر راسو فى وش الغاره
والفجر الرابع
زاحف فارع.. بي غبنو ملفح.
(من قصيدة “تنتظري “التي سميت بها المجموعة، وهى مهداة: إلى روح شهيدة كلية التربية جامعة الخرطوم الطالبة التاية).
هذان مثالان ابتدائيان من مجموعة (انتظري) الصادرة عن “دار عزة للنشر والتوزيع” والمحتوية على ثلاثة عشر قصيدة. اثنتا عشر منها بالعامية والأخيرة بالفصحى، والقصائد تختلف طولاً وقصراً وتتفق موضوعاً ورؤىً. وقد احتوت على قصائد من تلك التى اشعلت حرائقَ وجدلاً ابان نشرها أو حجبها ولاتزال، إذ استطاع الشاعر/الشعب من توصيلها بوسائل انتشار أخرى، كالانترنت والفاكس والنسخ اليدوى والتصوير والحفظ …الخ
مثل ذلك قصيدتي (صالح عام) و(قرنيته)، ما جعل الذاكرة تستدعي افادات الشاعر لصحيفة (ظلال) _الخميس 18 يونيو 1996 م _ التي جاء فيها :
“ان تؤمن السلطة بحق الفنان فى مساحة الحرية التى تعينه ليفجر طاقاته الفكرية والإبداعية لخدمة الحق والحقيقة، وأن يقدر الفنان مساحة الحرية التى يستخدمها بان يكون ضميراً لوطنه وأمته، وان يكون على قدر مسؤولية تلك الحرية .. ولكن بالطبع هذه المعادلة قابلة كثيراً “للخرق” خصوصا من جانب “السلطة ” لأن السلطة _أي سلطة _ لا تتحمل ان تسمع كلمة “لا” بصوت مرتفع .. و”لا” الفنان موجعة لأنها لو صدقت بصيرتها وأسبابها تكون “لا” الغالبية العظمى من الجماهير، لأن الفنان “الضمير” نافذ البصيرة، راجح العقل، لديه حاسة النبوءة بالزلازل والأعاصير، وهو طائر “البشارة” الذي يحب ان يشقشق خارج القفص”.. وهو يستطيع ان يرى ما لا تستطيع أن تراه “السلطة” وما لاتريد السلطة ان يرى. وبصراحة سوف تظل علاقة الفنان والسلطة علاقة تنافر وتضاد الى ان يرث الله الارض وما عليها.
المصدر: صحيفة التغيير