د. الوليد آدم مادبو
لم يكن انزياح مركز السلطة من الخرطوم إلى نيالا البحير مجرّد انتقال للمقرّ أو تبديل للواجهة، بل كان انزياحًا للروح والوجدان، لحظة انعتاق من وصاية المركز الذي كبّل الإرادة الشعبية لعقود. لقد خرجت الجماهير من تحت عباءة الخرطوم لتتنفّس هواءها الخاص، وتعلن بصوتٍ جهور: *نحن أهل هذا البلد، ونحن أصحاب قراره ومصيره.*
لقد عاشت الجماهير عقودًا من الوصاية المقيتة: نخب المركز احتكرت السلطة والثروة، حبست السودان في فضاء مشرقي ضيق، وفي مخيلة استعمارية متعجرفة، فحرمت أهله من الاتساق مع ذواتهم ومن ثم ضياع فرصة الإبداع، ومن إمكانية الاستثمار في العمق الوجداني الإفريقي. فُصل الجنوب بعد أن كادت تباد شعوبه، سُرقت موارد الغرب، صودرت كرامة المزارع والراعي، وأُهملت صحة الأمهات وتعليم الأطفال. *لم يكن الإهمال وحده هو الجريمة، بل كان الإصرار على تمزيق الأواصر الإنسانية، وإشعال الفتن القبلية*، وتحويل شباب السودان وأهل دارفور خاصة إلى وقود لحروب عبثية تُغذيها الأطماع الشخصية.
لكن السودان اليوم يشهد لحظة كبرى.لحظة انعتاق. *لحظة وعي جديد يولد من رحم المعاناة.* من نيالا، من كاودا، من أم صميمة، من الخوي، من الفاشر، من الخرطوم نفسها، ترتفع الصرخة: لن نُستعبد بعد اليوم، ولن نُدار بعقلية الغنيمة. نحن أهل هذه الأرض، وأصحاب هذه الرسالة.
في نيالا يجب أن تتجلى المهمة لا الهمة وحدها: مهمة بناء وطن حديث يستلهم عبر الماضي ويستشرف آفاق المستقبل. *وطنٌ لا تُدار فيه الدولة بقرارات مرتجلة، بل برؤية استراتيجية تستند إلى الأطر العلمية والمنهجية*. وطنٌ يتقدم بخطى راسخة، عبر كوادر مؤهلة تحمل في عقولها وقلوبها رسالة النهضة، ونخبة مُهيأة لتحمل هذه المهام الجسام التي تشمل ولا تقتصر على الأمن والخدمات.
يا أبناء السودان، يا أبناء الغرب، إنكم لستم في مواجهة مع الدين كما يدعي المفلسين وتجار الدين، فالدين كان ولا يزال روح هذا الشعب. لكن *الدين الحق لا يُختزل في فتاوى الساسة ولا يُستعمل عصا غليظة في يد الطغاة*. إن حاجتنا اليوم إلى العلمانية ليست خصومة مع إسلامنا، بل هي وفاء لجوهره؛ وفاء لمبدأ “لا إكراه في الدين”. العلمانية تفتح الطريق أمام السياسة كي تزدهر بعيدًا عن القداسة الزائفة، وتفتح للدين آفاقًا أرحب ليرتقي فقه المعاملات معرفيًا وإبستمولوجيا، متغذيًا من مكتسبات الحضارة الإنسانية ومتشربًا لمنجزاتها. هكذا تتكامل الجهود الروحية والفكرية لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
لقد علّمنا التاريخ أن الأمة تزدهر حين يتوازن سلطان العقل مع نور الوحي، وتذوي حين يتغوّل أحدهما على الآخر أو يتعسفان في تعاطيهما مع بعضهما. واليوم، من غرب السودان، ينهض السودان لعله يُعيد هذا التوازن ويثري مهمة التناغم والاتساق مع الذات.
ما يجري اليوم في دارفور وكردفان ليس مجرد صراع مسلح، بل هو نتيجة مباشرة لفشل مشروع الدولة المركزية في احتواء التنوع السوداني، وفي تحقيق العدالة والتنمية المتوازنة. ما تطرحه قوى الهامش الآن هو *إعادة تعريف لمفهوم “الوطنية” بعيداً عن الصيغة الأحادية* التي اختزلت السودان في المركز وفرضت على البقية التبعية أو التمرد.
ولذلك فإن *إعلان الحكومة من نيالا ليس معركة جهوية، بل هو لحظة سودانية بامتياز*. هو نتاج لتراكم الظلم، وهو أيضاً فرصة لتأسيس مشروع وطني جديد، يقوم على الإرادة الشعبية، وعلى قيم العدالة والمساواة، لا على إرث القوة أو الامتيازات التاريخية.
ختامًا، إن إعلان الحكومة من نيالا ليس حدثًا عابرًا ولا انتصارًا جهوياً، بل هو بداية لمعركة البناء بعد التحرر، وبشارة لعهد ينهض فيه السودان من غربه كما ينهض الفجر من رحم الليل. من نيالا يبدأ السودان الحقيقي، *وعلى إرادة الجماهير وحدها تُكتب فصول المستقبل*.
المصدر: صحيفة الراكوبة