“لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب
لو بقيت في داخل العيون والأهداب
لما استباحت لحمنا الكلام”
نزار قباني
حسن أبو زينب عمر
في عالم أصبحت فيه الكلمة سلاحا والما يكرفون منبرا والرأي العام صناعة فان 70% من المجتمعات البشرية تعتمد على وسائل الاعلام كمصدر رئيسي للأخبار والمعلومات التي تتدفق وتنهمر كالأنهار دون توقف من كل اتجاه يلعب الاعلام دورا محوريا في توجيه الأفكار والمواقف حتى السلوكيات فهو في جوهره وبما يبثه من مشاهد وتعليقات يمتلك قدرة مذهلة على تشكيل الوعي المجتمعي وصياغة التصورات وصناعة رأي عام رافض لكل القناعات المتحجرة لدي القوى الكبرى منتزعا مواقف كانت سببا مباشرا لتجيير قضايا السلام والعدالة الاجتماعية والسياسية لصالح الضحايا المنسيين.
(2)
تماهيا مع هذا المنحى لن ينسى العالم صورة الطفلة الفيتنامية (فان ثي كيم فوك) (9) سنوات التي كانت تركض عارية كما ولدتها امها وهي تصرخ هاربة بعد أن أكلت قنابل النابالم جسدها الغض خلال غارة عام 1972 وعرفت فيما بعد باسم (فتاة النابالم). الصورة حفرت في وجدان الرأي العام متكأ للاستيطان بعد أن احتلت غلاف مجلة (تايم) ودخلت التاريخ كأحد أكثر فظاعات الحروب ونالت لقب (رعب الحرب) وفازت بجائزة بوليستر واختيرت كأفضل صورة لعام 1973مشفوعة بآثارها الإنسانية الموجعة وتداعياتها المؤلمة على الرأي العام العالمي والحركات المناهضة للحرب وكانت سببا مباشرا من انسحاب أمريكا من فيتنام. كانت الصورة في طريقها الى طوايا النسيان لولا ذكاء مصور وكالة اسوشيتدبرس (نيك أوت) الذي تواجد بالصدفة المحضة في المكان والزمان الصحيح خلال غارة الطائرة.
(3)
منها أيضا صورة المصور الجنوب أفريقي كيفن كارتر الذي التقط صورة لطفلة منهكة من جنوب السودان كان يراقبها نسر جائع لالتهامها. كارتر فاز بجائزة بوليتزرعام 1994 لكنه انتحر متحسرا بعد أقل من أربعة أشهر من حصوله على الجائزة تاركا ورائه موجة من التعاطف انتهت بحملات من الإغاثة. منها أيضا جرائم سجن غريب وفضائح الجيش البريطاني التي جرت وراء الكواليس وأثارت عواصف من الاستنكار على المستوى العالمي. السؤال أين نحن في عيون الضمير العالمي بعد أن تطاولت مآسينا وأصبحنا زبونا استثنائيا مميزا يسجل الأرقام القياسية العالمية ويحطمها في نسب النزوح ونسب الجوعى ونسب المشردين وتزايد أعداد المحتاجين الى الغذاء والعلاج
(4)
ما اعراب كوارثنا ونكباتنا الانسانية التي ورائها شيطان صنعه البشير ونفخ فيه البرهان؟ كيف تحول في غفلة من الزمان وحشا يمتص الدماء ويستبيح كل ما حرمه الله .. من سيدفع كلفة البنية التحتية التي شيدت بعرق الجبين عبر مئات السنين ثم تهاوت تحت التدمير الممنهج وفي لمحة بصر ركاما من الحجارة الصماء ..أولم تكن مئات المصانع والمنشآت التي تحولت الى حزمة رماد مادة كافية للإدانة والتجريم ؟..أين تاه صراخ الحرائر المغتصبات أمام أبنائهم وأزواجهم ؟ هل طوى النسيان هروب الملايين المرعوبة التي فقدت كل شيء ومنهم قبيلة المساليت التي تم اقتلاعها من أرضها بقوة الرصاص تحت مبررات اثنية فهربت كالهوام تبحث عن مأوى في المجهول؟ من أسدل ستار النسيان على صور الوالي خميس أبكر الذي تم جز رأسه ومثل بجسده؟ هل تنسى صور الأسرى المدنيين الذين يتم امطارهم بالرصاص الحي بعد تحقيق لا يستمر أكثر من ثوان من قبل قتلة أخذتهم العزة بالإثم .. اذا لم تجد مشاهد الدمار والتخريب التي طالت المدن وصور دماء الأبرياء التي سالت أنهارا استهجانا فمتى وكيف يكون الاستهجان ؟..كل هذه مواد كانت جاهزة للاستثمار نحو صناعة رأي عام عالمي يتجه بالاستنكار الى صدر الضمير العالمي .
(5)
الذي يستوقف هنا اننا إزاء اعلام كسيح فشل في حشد رأي عام دولي يتعاطف حتى بأضعف الايمان بعد أن أصبح أداة موجهة وأبواقا تدار من قبل ضباط يتولون توجيه الرسائل من خلال أجهزة الهاتف المحمول وتحديدا عبر هاتف (سامسونج) لما يطلق عليه اعلام التعليمات. والنتيجة ان الاعلام الذي نعيشه للأسف عاجز عن الانتقال الى مرحلة الرشد بعد ان تفرغ لإدارة معارك شخصية حد الاستماتة لشيطنة الآخر واثارة قضايا لا طائل من ورائها على حساب قضايا وجود الوطن من عدمه بل تورطه في تسويق القيم والمفاهيم السلبية ونشر الشائعات التي تهدد بقاء الدولة والمجتمع حتى أصبح اعلاما تابعا للسلطة ملتزما بالسردية الحكومية .. اعلاما باهتا كالماء الطهور لا لون لا طعم لا رائحة فقد قوته ودوره في تشكيل رأي عام والنتيجة تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي.
(6)
الذي يلفت النظر هنا كما جرت العادة ان المستمع السوداني يلجأ لفضائيات الجزيرة والعربية والحدث للحصول على المعلومة داخل السودان. لم نرى إعلاميا في وسائل الاعلام يغطي الأحداث الدامية من أماكن الأحداث الساخنة ..لم يستشهد أحد أثناء عمله وسط الالتحامات فالبرغم من غياب احصائيات دقيقة عن ضحايا الاعلام الذين قضوا نحبهم خلال تغطيات الحروب فان العدد ربما يتجاوز عشرات الآلاف ولكنه قفز عام 2024 وحده الى 108 قتيلا منهم 103 فلسطيني (لا أعتقد بوجود سودانيين وسطهم) أشهرهم مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة. باستثناء تغطية باهتة لمراسلة CNN الأمريكية السودانية الأصل (نعمة) ابنه رجل الأعمال والرئيس السابق لمجلس إدارة صحيفة الخرطوم الدكتور الباقر أحمد عبد الله احتلت صحيفة الغارديان البريطانية بلقب أفضل التغطيات عن حجم الكارثة الانسانية ضاربة عرض الحائط بالتهديدات الإماراتية.
(7)
تحت ما نشيت مروع يقول THEY SLAUTERED US LIKE ANIMALS (ذبحونا كالخراف) أماطت الصحيفة اللثام وعلى لسان أحد ضحايا معسكر زمزم عن المجازر التي ارتكبت بدم بارد. سعة المعسكر 500 ألف مدني ينتمون كما كشف أحد محققي جرائم الحرب التابع للأمم المتحدة رفض الإفصاح عن اسمه لأكثر شرائح المجتمعات ضعفا في الكون (أطفال ونساء وعجزة) يموت وسطهم طفل كل ساعتين منهم ممرضة المعسكر هنادي داؤود التي لقيت حتفها لاحقا بعد رفضها الهروب من مرضاها للنجاة بروحها وكان ذلك متاحا. ما حدث في المعسكر هي صورة طبق الأصل للفظاعات التي ارتكبت في سيربنسيا (البوسنة والهرسك) حيث لقي 8 آلاف مسلم منهم نساء وأطفال وشيوخ مصرعهم على يد العصابات الصربية عام 1995 الا ان ردود الفعل في البوسنة والهرسك كانت قوية غاضبة بينما ذهبت أدراج الرياح في السودان حتى أصبح الاستنكار والتعاطف الأخلاقي اللازم مجرد أصداء باهتة لأسطوانة مشروخة تتحدث الى نفسها.
(8)
يقول التقرير ان قوات الدعم السريع كانت تحاصر المعسكر من ثلاثة جبهات ..بعد الثامنة صبحا اهتزت الأرض تحت دوي المدفعية الثقيلة وزمجرت أصوات المسيرات في السماء وكان الهدف هو العدو الناعم SOFT ENEMY (أطفال ونساء وعجزة) ورغم ذلك فقد دكت المدفعية الثقيلة المعسكر قبل أن تلحق بها المسيرات وتذبح ما تبقى . ويقول مشهد آخر انه فيما كانت خمسون مراهقة يتصفحن في جولاتهن توقفت بجانبهن سيارة تويوتا ونزل منها رجال وأدخلوا فيها المراهقات عنوة واختفوا عن الأنظار وعلى بعد 200 متر دخلت 30 تاتشتر حي الحمادي وأضرمت النار في ستون منزلا كانت لأثنية الزغاوة ..وكل من هرب من النساء للنجاة تلقي وابلا من الرصاص والذي بقي يرتجف خوفا تم ذبحه كالشاة ..رغم ان الامارات العربية تنفي بشدة ضلوعها في الجرائم المرتكبة منقبل ميليشيا الجنجويد فان هناك أدلة دامغة تدينها وتؤكد ان الأسلحة المستخدمة في مجازر زمزم قادمة منها وتقول الصحيفة على لسان أحد خراء الأمم المتحدة ان من حق لندن تهديد الامارات حرمانها من المشاركة في مؤتمرات السلام اذا لم تكف من تزويد جماعات الدعم السريع .
(9)
في الختام تؤكد الصحيفة انها صحيفة حرة ملكيتها وتمويلها لا يعود الى مليونيرات الصحافة بل الى القاريء وتستنجد به لتمويلها حتى لا تتوقف عن قول الحقيقة ويأتي موقف الصحيفة على خلفية تهديد سابق من الدولة الخليجية التي يسيل لعابها لقطف ثمار مصالحها وهي تري بأم أعينها أرضا تجرى من تحتها الأنهار وشعبا يتشاكس أفراده حول البيضة والدجاجة واصل الملائكة بين الأنوثة والذكورة كأهل بيزنطة تماما فجندت عشرات المحامين لمقاضاة الصحيفة لكشفها الدور الاجرامي الذي تقوم به في حرب الإبادة في السودان.
(10)
أمام واقع ضعف الاعلام السوداني للكشف عن مجازر وانتهاكات ميليشيات الدعم السريع فأنا لا أبريء الجيش من المذابح البشرية بعد أن اختلط الحابل بالنابل وهو يطارد جماعات احتلت بيوت الناس واتخذت السكان دروعا بشرية ولكنها صرخة حق أقولها عن دور الأنظمة العسكرية في خراب السودان منذ تنازل عبود لحلفا لصالح مصر مقابل 15 مليون دولار قبل أن يضيف عليها ومن جيب الخزينة 15 مليونا اخري لاستكمال برنامج نقل واستقرار أهلها في خشم القربة علما بأن الأشقاء يرفضون حتى مبدأ التفاوض حول حلايب وشلاتين مرورا بتأميمات نميري العشوائية وليس انتهاء بأكبر الكبائر التي ارتكبتها حكومة البشير في السودان وتربية البرهان للحية الرقطاء واطلاقها في جسد الوطن .
مدخل للخروج
أقول الآن ومن واقع قناعات راسخة في الذهن أكدتها تجارب الزمان شاء من شاء وأبى من أبى فوالله الذي لا إله الا هو أنه لو كان الذين يحكموننا هم رجالات الإدارة الأهلية الذين يفضون النزاعات بتمرير العصى على رمال الأرض تحت الأشجار في الخلوات النائية لما تعرضت البلاد والعباد لهذا الدمار غير المسبوق حتى في تجارب التاريخ.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة