نموذج الفنانة بلقيس عوض أعاد فتح ملف إهمال المبدع السوداني سواء من قبل الجهات الحكومية المتصلة بالقطاع، أو من الوسط والمبادرات!!

دنقلا: التغيير

أدى اندلاع الصراع المسلح في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023م إلى أضرار واسعة شملت كل مناحي الحياة، وطالت قطاع الثقافة والإبداع بشكل مباشر، بعدما تضررت المسارح وقاعات العروض، وتوقف الإنتاج الفني، مما ترك الفنانين السودانيين، الذين عملوا لعقود على تشكيل الوعي والهوية الوطنية، يواجهون تحديات إنسانية ومادية غير مسبوقة.

ويواجه بعض الفنانين حالياً صعوبات في الوصول إلى الخدمات الصحية نتيجة النزوح وظروف التنقل القاسية، فضلاً عن تدهور أوضاعهم الاقتصادية بسبب تدمير مصادر الدخل وتوقف الحركة الفنية والدرامية، ما جعل البعض غير قادر على تأمين تكاليف المعيشة والدواء. كما أدى النزوح والتشتت إلى تفكك البنية الاجتماعية للفنانين، مع غياب شبه كامل لأي رعاية مؤسسية.

وتبرز حالة الفنانة القديرة الممثلة بلقيس عوض كمثال على الصعوبات التي يواجهها جيل الرواد، حيث أثارت الكثير من النقاشات وأعادت فتح ملف إهمال المبدع السوداني الذي أثير كثيراً سواء من قبل الجهات الحكومية المتصلة بهذا القطاع، أو من الوسط الإبداعي والمبادرات ذات العلاقة بهذه الفئة!!.

بلقيس، التي وُلدت في الخرطوم عام 1946م، تخرجت في مدارس البعثة المصرية بالكلية القبطية للبنات وجامعة النيلين.

وتُعد شخصية رائدة في مجالات متعددة فهي أول امرأة تعمل ضابطة جمارك في السودان عام 1965م، كما كانت أول ممثلة تؤدي بالفصحى في الإذاعة السودانية منذ عام 1961م.

قدمت بلقيس عوض أعمالاً درامية راسخة في الذاكرة السودانية، من أبرزها “أقمار الضواحي”، “آخر قطار”، “سكة الخطر”، “بنت المدير”، “قطر الشمال” و”سكة ضياع”.

نزوح ورعاية متقطعة

في السنوات الأخيرة، تفاقمت الأوضاع الصحية للفنانة بلقيس عوض، حيث تعرضت لوعكات صحية متكررة شملت حوادث سقوط، مما استدعى عناية خاصة.

وتشير التقارير إلى أن رعايتها خلال هذه الفترات كانت تعتمد على مبادرات فردية أو محدودة؛ حيث تكفل بعض زملائها الجمركيين واتحاد الفنانين برعايتها ونقلها إلى مستشفى عطبرة للعلاج.

ومع عدم توفر دعم رسمي مستدام، تم تأمين إقامتها حالياً في فندق “دنقلا بلازا” بمدينة دنقلا مع ابنتها. وتُفيد المعلومات بأن حالتها الصحية مستقرة نسبياً في الوقت الحالي، لكنها تظل بحاجة إلى رعاية خاصة.

وقد تحولت صورتها وهي مصابة في رأسها وعينها، والتي تم تداولها على ناطق واسع، إلى مادة لتسليط الضوء على الحاجة الملحة لدعم الرواد في المجال الثقافي، مع اعتذار أحد مصادر الصورة لاحقاً، مؤكداً أن القصد كان التعبير عن المحبة الشعبية.

وتتسع دائرة التحديات لتشمل الوسط الفني بشكل عام، فقد أكدت الفنانة تهاني الباشا في تصريحات نقلها موقع الجزيرة في وقت سابق، صمود عدد من المبدعين في الخرطوم في ظل ظروف غير إنسانية.

خسائر فادحة

أدى النزاع وتداعياته المختلفة إلى خسائر بشرية ومادية جسيمة في الوسط الفني، إذ بلغ عدد الفنانين الذين فقدهم الوسط الفني أكثر من خمسة وخمسين فناناً وفنانة.

ومن بين أبرز الضحايا الشاعرة والمغنية شادن حسين، التي قُتلت في مايو 2023م بعد نشاطها في توثيق الانتهاكات.

كما أصيب عازف العود معتز منصور وفقد طرفاً من جسده بسبب الحرب، فيما أعلن اتحاد الفنانين عجزه عن تقديم المساعدة المطلوبة بعد خسارته لمقره ومصادر تمويله.

وعلى الصعيد، اضطر الرسام ياسر القراي إلى الاختباء في مرسمه بالخرطوم، متوقفاً عن نشاطه الفني خوفاً من القصف في أوقات سابقة.

كما لجأت مخرجات شابات إلى توثيق النزوح والدمار من خلال إنتاج أفلام قصيرة عبر هواتفهن، كآلية لحفظ الذاكرة والمقاومة.

كل ذلك حدث ويحدث في ظل إهمال واضح من جانب الحكومة القائمة، وغياب المبادرات وتباعد أهل الوسط.

ورأى ناشطون في موقع التواصل الاجتماعي أن هذه الوقائع تظهر أن الفنانين السودانيين لا يواجهون فقط خطر المرض والفقر، بل يواجهون أيضاً خطر اختفاء الذاكرة الثقافية للبلاد.

تحرك حكومي

التركيز على حالة الفنانة بلقيس عوض في مواقع التواصل الاجتماعي وانتشار صورتها الصادمة، أعقبه تحرك من والي الولاية الشمالية عبد الرحمن عبد الحميد، الذي زار الفنانة المسرحية في مقر إقامتها بدنقلا اليوم، بعد الوعكة الصحية التي تعرضت لها، يرافقه عدد من اعضاء حكومته والمدير التنفيذي لمحلية دنقلا.

وعبرت الأستاذة بلقيس بحسب وكالة السودان للأنباء، عن امتنانها وشكرها للوالي ومواطني دنقلا لاهتمامهم بها، وقالت إن الزيارة لها وقع خاص وتؤكد اهتمام حكومة الولاية بالمبدعين والفنانين.

من جانبه، قال الأمين العام للثقافة والإعلام الباقر عكاشة، إن زيارة الوالي للفنانة بلقيس تؤكد اهتمام الحكومة وحرصها على رعاية الفنانين والمبدعين، وأنها تصب في مصلحة الثقافة والفنون.

وبالرغم من ذلك، وجه ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي انتقادات شديدة اللهجة للسلطات الحكومية في الولايات المختلفة، مشيرين إلى أن التحرك حدث بعد أن كشف ناشطون طبيعة الوضع الذي تعيشه الفنانة، كما أنه كان يجب أن يكون في وقت أبكر، وأن على المؤسسات التي يتبع لها المبدعون أن تتابع أوضاعهم وتقف معهم، ونوهوا إلى أن الفنانة بلقيس ليست سوى نموذج لكثيرين يعيشون معاناة وإهمال كبير دون أن يسأل عنهم أحد، مطالبين بمتابعة أوضاعهم والوقوف إلى جانبهم في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.