نكبة التعليم في السودان ..
نكبة التعليم .. مقال يسلط الضوء على تدهور التعليم في عهد حكومة المشير عمر البشير
كان المعلم الذي تلقينا منه تأليف الجملة ، وتنسيق الفكرة ، وتلوين الصورة ، صاحب نبل في الأخلاق ، وسعة في الثقافة ، وعمق في الإدراك ، وبخت الرضا بالنيل الأبيض تلك المؤسسة التربوبية الرائدة التي عفرتها سافيات التراب ، كانت هي من تدفع عن الوطن وصمة الجهل ، وعن أديمه نقيصة التخلف ، نعم لم يكن من سقاه الكرم المحض ، والنبل الخالص والذي يعيش النشء الأغرار في كنفه كما يعيشون في ظلال أبويهم مثالاً للجشع الجريء ، والإهمال الدنيء ، والجهل العاتي ، بل كان سراجاً نيراً لكل ضال ، وشعاعاً متوهجاً لكل غافل.
كان التعليم الحكومي الذي امتزجت به كل شائبة ، وسرت إليه كل علة ، فيما مضى من عقود مثل شجرة سامقة وارفة الظلال ، تؤتي أُكلُها كل حين ، وترفد السودان بنوابغ يتباهى بهم في محافل الدول ، ولكن هذه الدوحة الفينانة صوحت بعد بهجة ، وأوحشت بعد أُنس ، بعد أن كابدت أغصانها الملدة معرة الظلم ، وقاست مذلة الحرمان. إنّ فاجعة التعليم اليوم تدمي العيون ، وترمض الجوانح ، وتستدعي الدهشة الأمر الذي يستوجب علينا العكوف لدراسة مأساته التي تتطلب أن نكون يداً واحدة ، ورأياً جامعاً ، وعزيمة ماضية ، لانتشاله من تلك الهوة التي تردَّى فيها ، فمن يدور برأسه الغرور ، ويذهب بنفسه العناد ، يقرُّ في خضوع أن المؤسسة التعليمية التي كانت تحفز القرائح للعمل بالعطايا والمنح وتضمن الإجادة بالجهد الدائب ، والعناء المرهق ، وترتقي بالأداء بالمتابعة اللصيقة والإشراف المستمر ، قد انحلت عُراها ، ووهت علائقها ، وأنّ المعلم الذي كان متمكناً في علوم اللغة واللسان ، ومتبحراً في ضروب الفقه والدين صاحب الملكة في العلوم ، والقريحة في الأدب ، قد أضحى غاية في الغثاثة والهزال ، بعد أنّ أصابته الدواهي النُكر ، والبلايا المواحق ، لقد أضحى ناشر العلم ، وباعث الهداية ، وموئل اللغة ، أثراً عبث به الدهر ، وتاريخاً تطرق إليه النسيان ، فمن كان يصدق أن من تشخص لطلعته الأبصار ، وتشرئب لمقدمه الأعناق ، يتفاقم شره ، ويستطير أذاه ، ويغدو صاحب عقلية ضحلة خرقاء ، لا هاجس لها سوى اكتناز المال ، والتعلق بأهداب المادة ، من كان يصدق أن المُربي الفاضل صاحب السمت الرزين ، والمنطق المتئد ، والأسلوب الرخيم الحواشي ، يقود طالبه الى الفوضى الخلاقة ، والفشل الذريع ، حينما يغض الطرف عن تصرفاته الهوجاء التي يتمعر لها كل جبين ، وتتنكر لها كل ناصية ، ولكن أنىّ لأساتذة هذا الزمان أن يدركوا ما تقتضيه واجبات مهنتهم السامية وهم أنصاف المتعلمين ، وأرباع المثقفين ، الذين تكالبوا على تلك المهنة فراراً من الفراغ المقيت ، والبطالة التي تُميت ، كيف لمن تعول عليهم الأسر أن يحفلوا بخلق ، أويكترثوا لقيم ، وهم الذين بددوا الوقت في الجامعات لتنظيم الحشود ، أو حصب الجنود ، من كان يصدق أعزك الله أن المراحل التعليمية الثلاث تختزل في اثنتين ولا يُراعى الفارق المهول في السن بين طفل يرفل في معية الصبا ، وآخر راهق الحلم ، وشارف الإدراك ، بل من كان يصدق أنّ الكتاب المدرسي الجم الفوائد ، السديد المنهج ، الذي يستوعب أصول كل علم ، ويحيط بفروعه ، يمسي عبارة عن هلاهيل لا تشحذ ذهنًا ، أو تُلهِم خاطرًا ، وأنّ من هدّهم الغلول ، وأعمتهم السلطة ، قد زينوا الإخفاق بموشحات أنوط بالقلب ، وأعلق بالذاكرة.
إنّ من يدعي نهضة العلم في هذا البلد الأبي ويضمخ ثورة التعليم المزعومة التي أتحفتنا بها الإنقاذ الحانية بعبارات الثناء والتقريظ يعوزه الدليل ، ويحتاج إلى تحرير الحجة .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة