نقوش على جِدار الحرب السودانية ٤ : خطوات إنهاء الحرب
د. مقبول التجاني
إن ترتيبات إنهاء الحرب الأهلية الدائرة الآن في السودان تحتاج إلى خُطوات مُعقدة ومُتشابِكة ، ودائرية ولوابية ، وليس بالضرورة إلى خُطوات خطية ومُستقيمة ومتتالية ، وذلك لطبيعة الحرب السودانية نفسها، وتعقيداتها ، وتعدد أطرافها الفاعلين المحليين ، وتداخلاتها الخارجية ، الإقليمية والدولية.
هناك قصة شعبية سودانية قديمة ، عن مزارع سوداني بسيط كان يعيش في جزيرة نشب بها حريق هائل ، وكان لديه خروف ومرفعين وبرسيم ، ويريد نقلهم الثلاثة إلى الضفة الأخرى مِن النهر ، خارج الجزيرة ، وبقارب صغير ، لا يتسع إلا لشيئ واحد معه.
فهو لا يستطيع ترك البرسيم مع الخروف ، لأن الخروف سيأكله ، ولا يستطيع ترك الخروف مع المرفعين ، لأن المرفعين سيإكل الخروف ، فقرر أخذ الخروف معه فِي المرة الأولى ، وترك البرسيم والمرفعين في الجزيرة.
ثم عاد المُزارع إلى الجزيرة مرة ثانية ، وأخذ البرسيم مِن الجزيرة ، وفي العودة الثالثة أخذ معه الخروف إلى الجزيرة مرة أخرى ، وترك الخروف هناك ، وعاد بالمرفعين.
في المرة الرابعة عاد المُزارع السوداني إلى الجزيرة ، وأخذ معه الخروف ، وبذلك يكون قد نجا بهم جميعاً ، وحل هذا الإشكال المُستعصِي ، بحكمته السودانية الفطرية.
كذلك هو حريق الحرب الأهلية السودانية ، يحتاج التعامُل الموضوعي مَعهُ ، إلى إجراءات وترتيبات وخطوات مُعقدة ، مثل تِلك الخطوات الحكيمة والصبورة ، والتى قام بها هذا المُزارع السوداني البسيط ، فِي حدود خِبرته الحياتية وبيئته المحلية.
كما أن الحل للأزمة السودانية الراهِنة ، والمُتجلية فِي الحرب الكارثية ، يُمكن أن ينبع من داخل حدود الذاكرة الشعبية السودانية ، ومخزونها القيمي والمعرفي الهائل ، وحِكمتها الفطرية المُتوارثة عبر الأجيال ، وعلاقتها الأنثروبولوجية الوطيدة بالبيئة ، وتفاعلاتها الإجتماعية الثقافية البينية ، و جدلها التأريخي مع المادة.
مِن حيث المبدأ ، فإن عملية وقف الحرب الأهلية فِي السودان ، تعلو على أي أهداف سياسية أخرى ، ولا يجب أن تربط إبتداءاً بعملية تحقيق التحول المدني الديمقراطي ، أو عملية تفكيك الإسلاميين ، مِن الأجهزة العسكرية والأمنية ، لأن تلك العمليتين السياسيين لديهما مجال آخر تتحركان فيه ، وهو مجال النضال المدني السلمي الديمقراطي ، كما كان هو الحال في ثورتي أكتوبر ومارس/ أبريل ، وثورة ديسمبر المجيدة.
فك هذا الإرتباط التعسفي ، والإشتباك الغير موضوعي ، بين خروف التحول المدني الديقراطي للشعب السوداني، ومطالب تفكيك مرفعين الإسلاميين فِي الأجهزة الأمنية والعسكرية ، مُهم وضروري للغاية ، مِن أجل البدء الفوري فِي الترتيبات العملية لوقف الحرب الأهلية السودانية ، والعبور بالسودان وشعبه إلى بر الأمان ، ومِن ثم إلى رحابة الديمقراطية والتنمية.
في إعتقادي البسيط ، أن هذه هي العقدة الأساسية فِي المنشار السياسي ، لأننا إذا إستمرينا فِي ربط موضوع ، عملية وقف الحرب الأهلية ، بعمليتي تفكيك الإسلامين وتحقيق الديمقراطية ، فسوف تستمر هذه الحرب السودانية إلى الأبد ، ولن تتحقق فِي النهاية أي ديمقراطية.
كما أن هذا الموقِف السياسي التعسفي ، يتجاهل بالكامِل موضوع التكلفة الإنسانية العالية ، ومُعاناة الإنسان السوداني البسيط اليومية ، والذي لن يقبل بهذه الحرب الجهنمية ، كثمن لتحقيق التحول المدني والوصول إلى الديمقراطية.
لذلك فإن الموقِف الثوري الصحيح ، والوطني السليم ، هو إيقاف الحرب الأهلية الدائرة الآن ، بأي ثمن ، وتحت أي سقف سياسي مُنخفض ، لتستمر بعد إيقاف الحرب عملية النِضال المدني السلمي الديمقراطي ، لاستكمال الثورة وتحقيق أهدافها السياسية والتنموية المرجوة.
على تنسيقية وتجمع القِوى المدنية الديمقراطية “تقدم”، أن تنأ بنفسها عن أي فصيل عسكري مُسلح مُعارِض ، وأن تتفاوض مع حكومة الأمر الواقع فِي بورتسودان ، بإعتبارها مُعارضة مدنية فِي الخارج فقط ، وعلى حُكومة بورتسودان أن تتعامل مع تقدم بنفس هذه الصفة والكيفية السياسية.
كذلك على حُكومة الأمر الواقع فِي بورتسودان ، أن تتفاوض مع قوات الدعم السريع ، بإعتبارها قوات مناطِقية مُتمردة ، مثلما تفاوضت الحكومات السودانية السابِقة ، مع حركات دارفور وأنانيا والحركة الشعبية.
فِي إعتقادي أن نموذج إتفاقية نيفاشا عام ٢٠٠٥م ، ليس مثالياً ، ولكنه هو الوحيد المُتوفِر الآن ، ويمكننا البناء عليه ، وتطويره إلى إتفاق سلام يحقِن الدماء ، ويفتح الطريق لاحقاً مِن جديد ، لعملية سياسية ديمقراطية مُوسعَة.
لذلك ، نحن نحتاج الآن إلى عملية سلام شامل ، وبين طرفين مُتحاربين فقط ، وليس إلى عملية سياسية مُوسَعة ، والتى قد تأتي لاحقاً ، وبالضرورة سيكون لها حساباتها وتكتيكاتها المرحلية.
كذلك يجب على تجمع القِوي المدنية والديمقراطية “تقدم”، أن يتعامل بإنفتاح مع تَحالُف الكتلة الديمقراطية المُوالى لإنقلاب ٢٥ أكتوبر ، لأن الإنفتاح السياسيي الحكيم ، هو الوحيد القادِر على تعرية هذا التحالُف الهَّش ، وخلخلته مِن الداخِل سياسياَ وتنظيمياً.
في لعبة الضمنة الشهيرة ، تحتاج أحياناً أن تعطي خصمك فرصة ومساحات للعب ، حتى لا يقفِل الضمنة بكماء طرشا ، وهو ما حدث عدة مرات في السابق ، نتيجة لتصرفات قحت الصبيانية.
تحتاج تقدم الآن ، أن تستفيد مِن أخطاء الماضي ، وأن تفتح مساحات للغير للعب السياسي ، وأن لا تلعب مجددا على ورقة وزريعة مُكافحة الإغراق السياسي ، حتي لا تُعمِق مِن حالة الإنسداد السياسي ، وما نتج عنها مِن حرب أهلية.
يُرَّكِز الخطاب الإعلامي المُناهِض للحرب ، على تفكيك خِطاب البلابسة الموالي والمُحرِّض للجيش السوداني ، ولكنه لا يدخل فِي مساحات تفكيك الخطاب الإعلامي التحريضي الموالي للدعم السريع ، أو يقوم مُباشرة ، بتوجيه خطاب إعلامي توجيهي راشد لِمقاتِلي الدعم السريع ، والذين يُهاجِمون القُرى والمُدن الآمنة.
ما هو شكل الخطاب الإعلامي الذي يتلقاه يومياً ، مُقاتِل الدعم السريع ، حتي يقوم بإستهداف المدنيين ومُمتلكلتهم المادية؟ وما هي تركيبة مُقاتلهم العقلية والسايكولوجية؟ .
لماذا هناك فزع قبلي بمئات الآلاف ، مِن إقليم دارفور ، ويُهاجِم المدنيين يومياً فِي قُرى ولاية الجزيرة التي كانت آمنة؟ .
هل يتعامل جندي الدعم السريع ، مع مناطِق الشريط النيلي بإعتبارها كلها حاكورة قبلية مُعادية؟ كما تربى على ذلك السلوك البربري ، في تعاملِه مع الحاكورات المُجاورة فِي دارفور سابقاً ، وكما كان يقوم بحرق قرية كاملة فِي دارفور ، مِن أجل بقرة أو ناقة مسروقة! .
نحن نحتاج الآن ، أن ننتقِل مِن مرحلة إدانة السلوك اليومي لمقاتلي الدعم السريع ، إلى مرحلة تفسير ذلك السلوك وتغييره ، وتوجيه خِطاب إعلامي قوي لمقاتليهم فِي الميدان ، وإيقاف المزيد مِن تحشيدهم القبلي المُستمر.
فِي مشهد مِن مشاهِد فلم “دكتور بارناثيوس”، إضطرت إبنته الصغيرة إلى الرَّقص مع الشيطان ، وأغرته بأنها ستختار العبور مِن باب الجحيم ، لتخدعه فِي النهاية وتعبر مِنه إلى باب الجنة والنعيم.
أن عملية الحوار والتفاهم ، والمُناورة مع الإسلاميين ، فِي هذه المرحلة المفصلية ، والتوقيت الحَرِج؟ مُهِمة وضرورية للغاية ، مِن أجل إيقاف الحرب الأهلية ، وتحقيق الغايات الإنسانية النبيلة ، وإنهاء معاناة الشعب السوداني ، والعبور به مِن جحيم الحرب إلى جنات النعيم.
الإسلاميين لم يعودوا ذلك البعبع الذي يُخِيف ، كما كانوا فِي عهد الرئيس المخلوع عمر البشير ، وليس لديهم الآن كوادِر مُؤهلة لحكم كُل السودان ، وليس لديهم قُدرة الآن على تأسيس دولة دينية شمولية لصالحهم وحدهم ، حتي لو حسم الجيش السوداني هذه المعركة لصالِحه بالكامِل عسكرياً.
إنتصار الجيش عسكرياً ، لا يعني أوتموماتيكياً العودة للديكتاتورية وإنفراد الإسلاميين بالسُلطة ، ولكن النصر العسكري الكامِل للجيش غير وارد أصلاً ، على الأقل فِي العشرة أعوام القادِمة.
يحتاج الفريق البرهان الآن ، أن يُشكِل حكومة مدنية مِن حلفائه السياسيين ، لِتُعبِّر هذه الحكومة عن توازنات القِوى الحقيقية ، للمجموعات السياسية المُتناثِرة الموجودة حوله ، ويخلق فِي النهاية مِن هذه الفسيفساء ، كُتلة سياسية مُتجانِسة.
لتقوم حكومة الأمر الواقِع فِي بورتسودان ، بعد ذلك بالتفاوض السياسي مع الكتلة المدنية فِي تقدم ، والتفاوض العسكري مع الدعم السريع ، كُل على حدة وهو امر يحتاج إلى حكومة قوية رشيقة ، وذات أجهزة إدارية متعددة، ولديها مطبخ سياسي فعال وذكي.
لا ينبغي لحكومة بورتسودان، أن تُسلِم دفة قيادتها السياسية والأمنية والعسكرية ، لإبتزازات ونعيق الرَّكانة فِي الأجهزة الإعلامية وصُراخ وردحي اللايفاتية اليومي ، ويجب عليها أن تقوم بأدوارها القيادية ، وأن تجعل مِن الإعلام الحربي ، مُتغير مُنضبِط تابِع لها ، وأن لا تتبع له.
نحن نحتاج الآن ، إلى لملمة السودانيين ، وإلى تصفير العداد السياسي السوداني ، والعودة بالجميع إلى حالة ضبط المُصنِع ، لأن جميع المُمارسات السياسية السابِقة الغير رشيدة ، وغير حكيمة ، هي ما أدت بنا جميعاً إلى حالة البلكنة والإنسداد السياسي ، وما نتج عنها مِن حرب أهلية شامِلة.
فِي إعتقادي المُتواضِع ، أنه بإمكاننا كسودانيين ، وبجهدنا الذاتي الخالِص ، وبحكمتنا المحلية الموروثة عبر آلاف السنوات ، وبدون أي وساطة خارجية مِن إحد ، الخروج مِن مُستنقع الحرب الأهلية ، والعبور ببلادنا إلى بر الأمان والإستقرار ، تماماً كما فعل ذلك المُزارع السوداني البسيط .
المصدر: صحيفة الراكوبة