منتدى الإعلام السوداني
محمد أحمد شبشة
الخرطوم، 22 يوليو، 2025، (مركز آرتكل)
وسط ركام الحرب التي دخلت عامها الثالث، عادت أزمة العمل النقابي في السودان إلى الواجهة بعد إصدار مسجل تنظيمات العمل قراراته الأخيرة (7، 8، 9 لسنة 2025) بإنهاء الدورة النقابية وتحويل المكاتب التنفيذية للنقابات إلى لجان تمهيدية.
تطرح هذه القرارات الأسئلة مجددًا حول إرث العمل النقابي في السودان وعلاقة الحكومة بالنقابات، والحق في التنظيم الحر، ومستقبل الحريات النقابية، ومسؤولية الأطراف المختلفة في الأزمة الممتدة منذ ثورة ديسمبر 2018.
يرى الأستاذ محمد عمر شمينا أن القرار رقم (9) الصادر في 29 يونيو 2025 لا يمكن فصله عن السياق الانتقالي الذي أعقب الثورة .
وفي الواقع، وبعد ثلاثين سنة من حكم عمر البشير، كانت أولى قرارات (المجلس العسكري الانتقالي 2019) تتضمن تجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية التي قامت في عهده، وتكوين لجان تسيير إلى حين انعقاد الجمعيات العمومية الخاصة بكل نقابة. ثم جاءت لجنة (تفكيك التمكين) وحلت جميع النقابات واتحاداتها باعتبارها أذرع لنظام البشير، وتم تكوين لجان تسييرية كان يفترض أن تكون مؤقتة لكنها استمرت بلا تفويض قاعدي حقيقي، ما أدى إلى فراغ نقابي طويل الأمد، بينما انشغل (تجمع المهنيين) والقوى الثورية بصراعات داخلية بدلًا من بناء حركة نقابية مستقلة، ما يعني الفشل في ضمان حرية التنظيم النقابي وتهيئة البيئة القانونية لذلك.
مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 تضاعفت الأزمة بعد تدمير مقار النقابات في الخرطوم ونزوح العضوية وانعدام التواصل، مما جعل العمل النقابي شبه مستحيل، ويعلق شمينا بأن الدولة كان يجب أن تفتح مسارًا انتخابيًا يعيد الشرعية لا أن تعيد الحكومة إنتاج الأزمة تحت مسمى “لجان تمهيدية”.
بحسب القرار، يمنح المسجل سلطة إعادة تشكيل النقابات إلى لجان تمهيدية إلى حين إعلان انتخابات جديدة، لكن شمينا يرى أن القرار لا يقدم خارطة واضحة أو جدولًا زمنيًا ويمنح سلطة تقديرية غير محددة، ويفتح الباب لتغول الحكومة على النقابات، وهو ما يناقض مبدأ الاستقلال النقابي وفق اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87.
في المقابل يرى النقابيان، عبد الوهاب محمد مصطفى ومحمد علي خوجلي في مقال مشترك نشر سابقا أن حالة الجمود لم تبدأ بالقرار، بل هي نتيجة التباطؤ في إنفاذ قوانين الحريات النقابية، واستمرار العمل بقانون 2010 المقيد، وإبقاء النقابات بلا انتخابات، وأن القرار يعبر عن أزمة مستمرة صنعها تراكم الإهمال الرسمي والتجاذبات السياسية.
من الناحية القانونية، يوضح شمينا أن القرار قابل للطعن أمام المحكمة العليا كونه قرارًا إداريًا يمس مصالح مشروعة، ويمكن الدفع بتجاوز المسجل سلطاته بتحويل النقابات إلى لجان دون تفويض قانوني، وافتئات على حق الجمعيات العمومية. كما أن القرار يقيد حرية التنظيم المكفولة في الدستور ويخالف اتفاقية 87، ويمكن الطعن بأنه يكرس التمييز إذا ما تم تعيين لجان بانتقائية.
وفي هذا السياق، يرى الخبير عبدالله عبدالعزيز أن إمكانية الطعن ضد القرار قائمة، ولكن ليس لوضع جدول زمني للانتخابات مما قد يوحي بقبول إجرائها، إذ يسمح ذلك للمسجل بمواصلة الإجراءات بسلطته التقديرية. ويؤكد أن استبعاد سلطة المسجل يتطلب أن ينصب الطعن على استحالة إجراء الانتخابات نتيجة للحرب، حيث يعيش الأعضاء في مناطق نزوح ولجوء بعيدة عن أماكن العمل ودون ضمانات أمنية تتيح حرية التنقل، فضلًا عن تدمير أماكن العمل وعدم وجود مرافق صالحة. هذا الطعن المبني على القوة القاهرة هو الذي يمنح الدعوى قوتها، بخلاف الطعون التي تركز على الإجراءات فقط، إذ أن كيفية إجراء الانتخابات تظل ضمن سلطة المسجل ويمكن إجراؤها حتى في يوم عطلة وخارج أوقات العمل.
اتفاقية الحرية النقابية (رقم 87) تنص على حرية العمال في تكوين نقاباتهم والانضمام إليها دون تدخل السلطات، وعدم جواز حل النقابات إلا بأمر قضائي، بينما يمنح القرار سلطة للمسجل لإدارة النقابات من أعلى دون الرجوع للعضوية، ما يعرض السودان للمساءلة أمام منظمة العمل الدولية ويمنح الحق للنقابات لتقديم شكاوى دولية.
يقترح عبد الوهاب وخوجلي خطة عملية لمواجهة القرار تشمل: النشاط الميداني وإعادة بناء اللجان التمهيدية المنتخبة، رفع المذكرات للسلطات، رفع الدعاوى القضائية، تقديم شكاوى لمنظمة العمل الدولية، والتواصل مع الاتحادات الدولية لضمان الاعتراف بالنقابات المستقلة.
كما تربط (تنسيقية المهنيين والنقابات السودانية) بين الأزمة النقابية وقرارات العودة القسرية للعمل في ظل الحرب دون ضمانات أمان، وتعتبرها شكلاً من العمل القسري وانتهاكًا للاتفاقيات الدولية، وتدعو لتأمين العودة وإعادة تأهيل البنى التحتية وصرف الرواتب قبل فرض العودة.
يتفق شمينا وخوجلي وعبد الوهاب على أن القرار رغم إشكالاته يمثل فرصة للتذكير بأهمية إنهاء التجميد وبناء حركة نقابية مستقلة، فالنقابات لن تعود بقرارات فوقية أو استقالات صامتة، بل عبر نضال قاعدي قانوني وميداني يطالب بانتخابات حرة وحماية حرية التنظيم، لتعود النقابات صوتًا للعدالة الاجتماعية ومراقبة الأداء التنفيذي في السودان.
المعركة ليست ضد القرار وحده، بل ضد اختطاف النقابات من الدولة، وضد التجميد الذي حوّل العمل النقابي إلى ذكرى، بينما يبقى الأمل في القواعد التي تعرف أن طريق النقابة الحرة يبدأ منها، لا من المسجل.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (مركز آرتكل) لتتابع الجدل القانوني والسياسي الدائر حول مجريات العمل النقابي المستقل والعقبات التي التي تواجه ذلك منذ قيام ثورة ديسمبر 2018 إلى حين اندلاع الحرب في 2023.
المصدر: صحيفة التغيير