إبراهيم برسي
في غيابٍ يشبه اكتمال القصيدة، رحل نغوجي واثيونغو. لم يغادرنا كجسد، بل كأسطورةٍ تقرأ علينا وصيتها الأخيرة، لا بالحزن، بل بالحروف التي لم تتعب يومًا من حمل المعنى على أكتافها.
رحل من لا يليق به الرثاء الذي يُعفي اللغة من وجعها، رحل من يستحق أن يُكتب عنه كما تُكتب ملحمةُ مقاومةٍ خرجت من رحم اللغة الأم، وسكنت التاريخ حتى صارت جزءًا من جغرافيا الضمير.
ثمة جائزة لم تكن له، لكنها لن تفلت من ظله أبدًا. جائزة يُمنحها العالم لأولئك الذين تعلّموا كيف يكتبون، لا لأولئك الذين يُخضِعون الكتابة لفعلٍ يعيد تشكيل التوازن بين السلطة والمعنى.
نغوجي واثيونغو، الكاتب الكيني الذي لم يحصل على جائزة نوبل، لأنه ببساطة لم يكن “لطيفًا بما يكفي مع الاستعمار”، لم يُتقن لعبة الأبواب الخلفية، ولا ارتدى البدلات ذات الطابع السويدي.
ظلّ يكتب بلغته الأم، ويُعلن أن اللغة نفسها حقلُ معركة وفعل مقاومة، وأن الحرف حين يُستعار من سجّانه، لا يحرّر.
واثيونغو لم يكن مرشحًا لجائزة نوبل. بل كان امتحانًا لها.
في كل عام، كانت تمرّ الجائزة من أمام اسمه كما تمرّ جحافل المارينز من فوق جثث الأطفال : بنظرة غير مُكترثة. لكن السؤال لا يزال قائمًا وسيظل : ماذا لو كانت لجنة نوبل هي من تحتاج إلى واثيونغو لتنال شرف الأخلاق؟
وفي عمق المشهد، لا يتعلق الأمر بجائزة أدبية، بل بجهاز رمزي للهيمنة.
إن نوبل ليست محض تكريم، بل شكل ناعم من “تأميم العبقرية” باسم التوافق الغربي.
نعم، لقد مُنحت جائزة نوبل أحيانًا لمن يستحقها، كغابرييل غارسيا ماركيز، وكنزابورو أوي، لكن ذلك لم يكن سوى محاولة لتجميل اختلال المعايير بطلاء أخلاقي شفاف.
فقد جاءت بعض الجوائز وكأنها اعتذار غير معلن لمن تم استثناؤهم سابقًا، لا بوصفها تكريمًا لكتابةٍ تقلب البنية، بل بوصفها آلية لتخفيف الضغط عن سرديةٍ بدأت تتصدّع.
لقد كانت الجائزة، أحيانًا، تُمنح لا لمن تُبهر كتابته، بل لمن صار تجاهله أكثر فداحة من منحه.
وهكذا، لم تكن بعض التكريمات احتفاءً بذروة الإبداع، بل سترًا ضروريًا لفشل المؤسسة في إقصاء من لم يخضعوا لمنطقها.
فهي مؤسسة تصنع الكُتّاب الذين يمكن أن يُسَوّقوا كجزء من سردية الإنسان العالمي، بينما تُقصي أولئك الذين يجرحون هذه السردية بلغتهم، بتاريخهم، بمراراتهم الحارقة.
لم تكن أعنف إدانة لجائزة نوبل صادرة عن المنفيين من قائمتها، بل عن أحد الذين كُتب اسمهم عليها ورفض أن يُوقّع.
حين رفض جان بول سارتر الجائزة عام 1964م، لم يكن يتهرّب من التكريم، بل كان يقاومه بوصفه شكلًا ناعمًا من الهيمنة الرمزية.
كان يعرف أن الاعتراف، حين يأتي من بنيةٍ هو ذاته يُسائلها، يتحوّل إلى فخّ أخلاقي: يصير التتويج تجميلًا، وأن الكاتب، حين يقبل التتويج، يسلّم بسلطة المؤسسة، رفضها سارتر، وظلّ وفيًا لدوره : كاتب يكتب من خارج النسق، لا من أعلاه.
وفي امتداد لهذا الرفض، لم يكن واثيونغو مرشّحًا، بل شاهدًا على هشاشة ما لا يُمنح.
واثيونغو لم يكن يتقن لعبة التسويق، بل كان يعيد بناء المعنى من شظايا الاستعمار.
إنه ابن الأرض التي خُنقت مرارًا تحت خيمة الإمبراطورية، لكنه ظلّ يكتب كما يُكتب الأمل في مذكرات الأسرى.
لم يقايض المنفى بالمصافحة، ولا المقصلة بالتصفيق. ظلّ يجرّ لغته من فم المستعمر، ثم يعيد تركيبها لتقول ما لا يقال : “الكتابة ليست هواية، بل ساحة حرب تُخاض ضد الجهل والاستلاب”.
في روايته “تويجات الدم”، لم يكن يصنع شخصيات بل يُعرّي أنظمة.
مدينته الروائية، “إل مورج”، ليست مدينة خيالية، بل صدىً لما تبقى من كينيا المُعاد استعمارها بالعابرة للقارات….، وتحوّلت فيها الأحلام إلى مقابر بيضاء تُدار من مكاتب النخبة.
“من السهل أن تُخرس صوت رجل. لكن الأصعب أن تخرس صدى صوته حين يمتزج بصوت الأرض”.
وحين كتب “شيطان على الصليب”، لم يكن يستعير المجاز، بل يزرعه في صدر كل قارئ.
جعل من بطلاته نساءً لا يشبهن أيقونات التحرّر الغربي، وإنما نساءً ينهضن من قعر الألم، يركضن عكس الاتجاه، ويصرخن بلغتهن الأم: “لن نُباع مرتين، لا للبيض ولا لنسخهم السمراء”.
كل شيء في سيرة واثيونغو يشي بعظمة بلا تزييف.
هو الرجل الذي سُجن لأنه كتب مسرحية بلغة الكيكويو، فحوّل السجن إلى فصل من فصول المقاومة.
وحين نُفي، لم يهجر بلاده، بل حملها معه في لغته. وهو القائل :
“المنفى ليس أن تغادر الأرض، بل أن تغادرك اللغة”.
قال عنه المؤلف والمفكر الجنوب أفريقي مبوليليو مزاماني : إن نغوجي “أعاد تعريف ما تعنيه الكتابة في زمن ما بعد الاستعمار … لقد كسر هيبة اللغة الإنجليزية حين جعل من كيكويو مرآة للفكر النقدي، لا للفولكلور”.
أما تشيماماندا أديتشي، فاعتبرته “الأب الروحي للكتابة المناضلة في إفريقيا … الذي فهم مبكرًا أن الرواية ليست مكانًا لعرض الأزياء، بل لعرض الجراح”.
حتى الكاتب البريطاني جون بيرغر قال عنه: “نغوجي لا يكتب ضد الغرب، بل يكتب من موقع آخر كليًا … موقعٍ لا يعترف بأن المركز هو أوروبا”.
فهل تحتاج نوبل إلى واثيونغو لتتطهّر؟
أم أن واثيونغو أكبر من أن تُمنَح له جائزة تستمدّ قيمتها من النظام الذي حارب وجوده؟
إنها المفارقة التي لا تهدأ : رجلٌ يكتب كما يُكتب اللهب، ويُمنح الآخرون الجوائز لأنهم كتبوا كما تُكتب البلاغات الخالية من الألم، المصممة لإرضاء العابرين.
ولأننا أبناء اللغات الجريحة، نعرف جيدًا أن واثيونغو لا ينتظر جائزة.
ينتظر فقط أن تُقرأ كتبه لا على موائد النخبة، بل في فصولٍ مدرسية، على ألواحٍ خشبية، حيث لم تُمحَ آثار المستعمر بعد، لكن الأمل لا يزال يتهجّى الكلمات الجديدة.
في النهاية، لا نُكرم واثيونغو بمنحه جائزة نوبل. بل نُكرم نوبل لو أنها منحته.
وهو، في كل الأحوال، قد كتب اسمه في التاريخ بطريقة أعظم من التصفيق : كتبه بالنار.
رحل نغوجي واثيونغو … وبقيت كتبه تحفر في وعي القارئ ما لم تقدر عليه لجان التحكيم.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة