بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي
وزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابق
المدير التنفيذي، منتدى الدراسات والبحوث الإنمائية

في تعقيب للأستاذ تاج السر عثمان بتاريخ 15 أغسطس، 2025، على مقالى بعنوان “حكومة الثورة بين أباطيل “الشيطنة” وتجنيات “التطفيف” بتاريخ 10أغسطس 2025، أنتقد توصيفى لتجربة الاصلاح الاقتصادى فى فيتنام والتى أشرت فيها الى أن البنك وصندوق النقد الدوليان قد لعبا “دوراً حاسماً في دعم التحول الاقتصادي في فيتنام منذ أواخر الثمانينيات، بالتوازي مع إطلاق الحكومة الفيتنامية برنامج (دوي موي: Đổi Mới) للإصلاح الاقتصادي. ركّز صندوق النقد الدولي على تحقيق الاستقرار الكلي من خلال تقديم مساعدات مالية واستشارية، ساعدت في خفض التضخم، إصلاح السياسات النقدية والضريبية، وتحسين أداء النظام المصرفي. في الوقت نفسه، قدّم البنك الدولي تمويلاً واسع النطاق عبر رابطة التنمية الدولية (IDA) لدعم مشروعات البنية التحتية، التعليم، الصحة، والحوكمة، بالإضافة إلى برامج إصلاح السوق وإعادة هيكلة المؤسسات العامة. منذ استئناف الشراكة التنموية في عام 1993، قدم البنك الدولي بواسطة أدواته المختلفة اعتمادات ومنح إلى فيتنام قُدّرت بنحو 24 مليار دولار أميركي بحلول مارس 2019، عبر 165 مشروعٍ تنموىٍ وبرامجَ سياساتٍ عامة.”

أشار أستاذ تاج السر عثمان الى “أن فيتنام تعاملت مع البنك الدولي في اوائل تسعينيات القرن الماضي ، ووافقت علي بعض التوصيات التي قدمها البنك الدولي بشأن تجربة السوق ، لكنها رفضت برامج التكيف الهيكلي ، وتمويل المساعدات المشروطة التي تتطلب خصخصة الشركات المملوكة للدولة.” (الخط أعلاه من عندى للتنويه بنفى الكاتب تحديداً فى هذا السياق).

لكن الثابت أن الحزب الشيوعى الفيتنامى هو حزب “برامجى” لديه مشروع وطنى يحترم توازنات الاقتصاد الكلى الحديثة ومن أهمها استحقاق “توحيد سعر الصرف” للقضاء على السوق الموازى والنشاط الطفيلى المرتبط به ولهذا، كما سأبين أدناه، تعامل هذا الحزب مع صندوق النقد الدولى فى سياق برامج “التكيف الهيكلى” والمساعدات التمويلية المشروطة لنجاح استدامة سياسة توحيد سعر الصرف.

الحديث ذو شجون، أذكر أننى كوزير للمالية قد زرت دكتور صدقى عوض كبلو، القيادى المعروف فى الحزب الشيوعى فى منزله بمدينة بحرى للتفاكر معه حول ترشيد دعم المحروقات وكذلك القضاء على السوق الموازى للنقد الأجنبى عن طريق توحيد سعر الصرف. وقد أكرم الرجل وفادتى، وبيننا بعض الوشائج بالرغم من خلافنا الأيدلوجى والسياسى، فكلانا من أبناء مدينة النهود وهو ينتمى الى أحد الأسر العريقة فى تلك المدينة قبل أن تبدأ مواسم الهجرات الى العاصمة وقد كان للحزب الشيوعى وجوداً نوعياً فى مدينة النهود. فى معرض نقاشنا سألت دكتور صدقى ان كان هناك مرتعاً للنشاط الطفيلى أخطر على الاقتصاد السودانى من سوق تهريب المحروقات المدعومة والسوق الموازى للنقد الأجنبى. اختلفنا بالطبع فى الأدوات السياسوية ولكن كان حواراً علمياً وبناءً. وكذلك كان لى نفس اللقاء مع الاخوة فى المؤتمر السودانى، وقد كانوا والحق يقال من أهم الداعمين لمشروع الاصلاح الاقتصادى. ولا يفوتنى بأن أذكر أن ذلك اللقاء قد استضافه الأستاذ ابراهيم الشيخ فى منزله العامر، وهو أيضاً أحد الأيقونات الوطنية الكبرى من مدينة النهود.

بالعودة الى تجربة فيتنام، فقد اتخذ الحزب الشيوعى الحاكم قراراً وطنياً شجاعاً بتوحيد سعر الصرف، لكنه أيضاً أدرك بأن استدامة سياسة توحيد سعر الصرف تتطلب دعم صندوق النقد الدولي وقد تم له ذلك في ثلاثة مجالات رئيسة:

(أ) النماذج والبرامج السياسوية لتثبيت الاقتصاد الكلي بصورة عامة: بالنظر الى أن نجاح التوحيد لابد أن يكون فى سياق حزمة متكاملة من سياسات الاقتصاد الكلى تشمل السياسة المالية والاصلاحات المؤسسية على مستوى الاقتصادين الكلى والجزئى؛
(ب) سياسات استقطاب الاستثمار الأجنبى، حيث ساهم دعم الصندوق فى دفع المستثمرين الأجانب لعدم أخذ ما يسمى بخيار الانتظار (to exercise the option to wait)، بالنظر لحداثة تجربة الاصلاح الاقتصادى وعدم اليقين بدرجة مصداقيتها واستدامتها
(ج) توفير تمويل مباشر من قِبل الصندوق لدعم التوازن الخارجي، خاصة فى المراحل الأولى لبرنامج توحيد سعر الصرف.

ولولا قوة الارادة والثقة بالنفس التى تحلى بها الحزب الشيوعى الفيتنامى الحاكم وشراكته الموثقة بالدلائل كما سأورد أدناه مع صندوق النقد الدولي، لكان هذا البرنامج قد انهار تحت وطأة التضخم والضغوط الخارجية، كما حدث في اقتصادات أخرى خاضت إصلاحات مماثلة فى ظل أنظمة رخوة ليس لديها مشروعاً وطنياً متيناً لمقاومة الشعبوية الأيدلوجية منها والانتهازية. للأسف ما زال البعض فى اليسار السودانى ممسكاً بصنم “الجدلية المادية” التى قضى علم الفيزياء الحديث على مرتكزاتها الفلسفية، بينما أبانت تجارب الدول الاسكندنافية بأن نظام “الديمقراطية الاجتماعية” واقتصاد السوق الموجه أكثر نجاحاً وفعاليةً فى تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادى مقارنة بنظم الدكتاتوريات الماركسية البائدة. ولكن هذه قصة أخرى خارج اطار هذا المقال.

فيما يلي العمليات التي دعمها صندوق النقد الدولي والتي ساهمت في توحيد سعر الصرف واستدامته، الأمر الذى دعم تنافسية الاقتصاد الفيتنامى فى ارتياد الأسواق الخارجية والنمو الهائل للصادرات وصنع التحولات الهائلة التى حدثت للاقتصاد الفيتنامى:

أولاً، تسوية المتأخرات وتطبيع الوضع: سددت فيتنام جميع التزاماتها المتأخرة المستحقة لصندوق النقد الدولي في 5 أكتوبر 1993 (حوالي 100.2 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة من متأخرات الحساب العام للحكومة والصندوق الاستئماني وقسم حقوق السحب الخاصة)، مما أفسح المجال أمامها للحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي في اليوم التالي.

ثانياً، 6 أكتوبر 1993: صرف صندوق النقد الدولي 12.08 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة في إطار ما يسمى ببرنامج “برنامج التحول النظامي”( (Systemic Transformation Facility: STFكدعم فوري لميزان المدفوعات.

ثالثاً، بعد الاتفاق مع الصندوق على “اتفاق الاستعداد الائتماني” (StandBy Arrangement: SBA) فى 6 أكتوبر 1993 (أيضاً بعد يوم من دفع المتأخرات والتى تمت بترتيبات صورية متفق عليها)، حصلت فيتنام على 145.0 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة.

رابعاً، فى 11 نوفمبر 1994 (نفس يوم انتهاء “اتفاق الاستعداد الائتماني”) انتقلت فيتنام الى شراكة أكثر شمولاً وعمقاً مع الصندوق، حيث وقعت معه على “برنامج المساعدة الهيكلية الموسعةESAF: ” والذى أصبح لاحقاً برنامج الهيكلية الموسعة/البرنامج الممدد للتمويل الموسع .(PRGF/ECF) حصلت فيتنام فى اطار اتفاق التكيف الهيكلى الموسع على حوالى 535 مليون دولار أمريكي.

الموجز فى اقتصاديات سعر الصرف:

لتوضيح بعض الجوانب المفاهمية ومحددات سعر الصرف، دعونا نعرّف ”سعر الصرف الاسمي“ ومفهوم “سعر الصرف التوازنى: “equilibrium exchange rate. يُعرّف سعر الصرف الاسمي بأنه السعر النسبي بين العملات المحلية (مثل الجنيه السوداني) والعملات “الصعبة” القابلة للتداول العابر للحدود (مثل الدولار الأمريكي)، وسعر الصرف التوازنى هو ذلك السعر الذى يحقق التوازن فى أرصدة المحفظة(portfolio balance) المتعلقة بنسبة رصيد العملة المحلية التى يرغب الجمهور فى الاحتفاظ بها مقارنة برصيد العملة الأجنبية “الصعبة”، القابلة للتداول العالمى. وكذلك على المدى المتوسط والبعيد يتحكم الحساب الجاري(current account balance) في تحديد حركة سعر الصرف فى المديين المتوسط والبعيد.

أما على المدى القصير، تهيمن عوامل توازن أرصدة المحفظة على تحركات سعر الصرف الاسمي، حيث ينخفض سعر الصرف لتصفية السوق إذا أصبحت حصة الجنيه السوداني مرتفعة مقارنة بالدولار. يحدث هذا عادةً بسبب التوسع النقدي المفرط للنقد المحلي من أجل تمويل العجز فى الموازنة. عليه، لابد أن ينخفض سعر الصرف الاسمي لاستعادة توازن المحفظة، لأن الجمهور سيتخلص من ممتلكاته من النقود المحلية ويختار الاحتفاظ بالنقود الأجنبية. وهذا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار بشكل خاص على المدى القصير، وإذا حاولت السلطات الدفاع عن السعر الرسمي، فسوف تظهر سوق موازية للعملات الأجنبية.

وفي الحالات القصوى، تسيطر السوق الموازية تماماً كما كان الحال في السودان بعد تقسيم البلاد، خاصة منذ عام 2016. وقد حدث الشيء نفسه في فيتنام، حيث سيطرت السوق الموازية للعملات الأجنبية تماماً على الاقتصاد في الثمانينيات. كما يتأثر سعر الصرف بالعجز في الحساب الجاري، بسبب زيادة الطلب على الواردات عن المعروض من العملات الأجنبية من عائدات الصادرات. هنا أيضاً، ينخفض سعر الصرف الاسمي ليعكس القيمة الحقيقية للدولار مقابل الجنيه، خاصة على المدى الطويل. ومرة أخرى، إذا حاولت السلطات الدفاع عن السعر المرتفع، فسيتم تلبية الطلب على العملات الأجنبية لتمويل الواردات من خلال السوق الموازية، مما يجعل السعر الرسمي غير ذي أهمية. وقد حدث هذا أيضاً في السودان وفيتنام، خاصة بعد أن وصلت ضوابط الاستيراد إلى حدها الأقصى، حيث تم حظر جميع الواردات غير الأساسية.

المرحلة الأكثر صعوبة هي المرحلة الأولى من توحيد سعر الصرف، عندما تهيمن المضاربات المرتبطة بتوازن المحفظة على حركة سعر الصرف.

ولتفادى هذه المخاطر فى المراحل الأولى لبرنامج توحيد سعر الصرف تحتاج الإصلاحات إلى ضخ عملات أجنبية، مثل الموارد التي يقدمها صندوق النقد الدولي، من أجل تهدئة التوقعات السلبية وتعزيز مصداقية الإصلاح. هذا هو السبب الذي دفع الحزب الشيوعي الفيتنامي إلى طلب دعم صندوق النقد الدولي. وبمجرد أن تجاوز الاقتصاد الفيتنامي هذه المرحلة وتم احتواء التضخم بشكل حاسم، بدأ التخفيض الاسمي لقيمة العملة في المساهمة في تعزيز القدرة التنافسية لقطاع الصادرات، وتولى ميزان الحساب الجاري زمام الأمور، مما دفع الاقتصاد إلى نمو هائل مدفوعاً بقطاع الصادر.

من الواضح أن الحزب الشيوعي الفيتنامي قد واكب التطور العلمى فى أدبيات اقتصاد سعر الصرف، مدركاً أن منطق توازنات الاقتصاد الكلي لا تحده الأيدلوجيا وينطبق على جميع البلدان، سواء أكانت تحكمها أنظمة شيوعية برامجية، كما فى فيتنام، أو ديكتاتوريات كليبتوقراطية زبائنية، مثل نظام الانقاذ البائد.

(فى هذا السياق، أود الاشارة الى كتاب عن الأسواق الموازية للنقد الأجنبى وتجارب توحيد أسعار الصرف فى الدول النامية، والذى تضمن ورقتى عن السودان: https://link.springer.com/book/10.1007/9781349255207).

تمويل صندوق النقد الدولي وأهميته:

• سداد المتأخرات (بفضل جسر تمويل من المانحين وتغيير السياسة الأمريكية الذي مكن من ذلك) والدخول في اتفاق التسهيلات الميسرة لعام 1993، اضافة الى صندوق التسهيلات الخاصة (STF) منح فيتنام سيولة فورية للدفاع عن النظام الموحد الجديد مع تشديد السياسة الكلية.
• قدمت برنامج ESAF لعام 1994 دعماً ميسراً ومتدرجاً مرتبطاً بالانضباط المالي/النقدي وتحرير سوق الصرف، وهو أمر أساسي لتجنب العودة إلى تعدد أسعار الصرف.
• ساعد تأييد صندوق النقد الدولي في تسهيل مباحثات تخفيف أعباء الديون وتقديم مساعدات أوسع نطاقاً (مثل إعادة جدولة ديون نادي باريس في ديسمبر 1993، مع تخفيض كبير في صافي القيمة الحالية)، مما عزز الاستدامة الخارجية.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.