
عمر سيد احمد
دروسٌ من الشمال ونهجٌ إنتاجي يبدأ من القاعدة
حين خرجت أوروبا من أنقاض الحرب، كان أمام دول الشمال الإسكندنافي سؤالٌ وجوديّ: كيف يمكن أن تُبنى الدولة دون أن تتحول إلى دولةٍ رأسماليةٍ جشعة أو بيروقراطيةٍ خانقة؟ فلم تلغِ تلك الدول الرأسمالية، لكنها أعادت تعريفها بوصفها عقدًا اجتماعيًا جديدًا يوازن بين حرية السوق وعدالة التوزيع، بين الربح والمسؤولية، بين رأس المال والعمل. لقد جعلت من الاقتصاد خادمًا للمجتمع، لا سيّدًا عليه. وجّهت الدولة استثماراتها نحو القطاعات الإنتاجية الحقيقية الزراعة، التعليم، الصناعة، الصحة بدلًا من ترك رأس المال يلهو في مضارباتٍ ماليةٍ عقيمة. فنشأ نموذج تنموي قائم على العمل المشترك والإنتاج الجماعي، لا على تراكم الثروة الفردية، وهو ما مكّنها من تحويل الرفاه الاجتماعي إلى جزءٍ من هوية الدولة لا امتيازًا طبقيًا.
هذه التجربة لا تقدّم لنا وصفةً جاهزة، بل منهج تفكير: أن الإعمار لا يكون بعودة البنوك وحدها أو بإعادة تعبيد الطرق، بل بإعادة بناء العقد الذي يربط الدولة بمواطنيها عقدٌ يجعل رأس المال في خدمة العمل، والاقتصاد في خدمة المجتمع. ومن هذا المنطلق، فإن السودان الخارج من الحرب لا يحتاج إلى “مانحين” بقدر ما يحتاج إلى رؤية إنتاجية عادلة تعيد بناء الإنسان قبل البنيان، وتستثمر في الريف لا في الواجهة.
لقد أثبتت تجارب التاريخ أن البناء الحقيقي يبدأ من القاعدة لا من القمة، ومن الريف المنتج لا من العاصمة المُنهكة. فالإعمار لا يكون بمدّ الطرق وحدها، بل بإحياء الأرض التي انقطع عنها المطر والإنتاج معًا، وبإعادة الإنسان إلى دورة الحياة المنتجة. البداية يجب أن تكون من النشاط الزراعي التعاوني، حيث تتوحّد جهود المزارعين في جمعياتٍ إنتاجية تُعيد الثقة إلى الريف وتخلق فرص العمل. ومن هناك، تتقدّم الدولة لإعادة التعليم الريفي والتقني باعتباره المحرّك الأول للتنمية المستدامة، جنبًا إلى جنب مع دعم المنشآت الصحية في القرى والبلدات النائية، فالتنمية لا تزدهر في بيئةٍ مريضة.
تُثبت تجارب رواندا وفيتنام وإثيوبيا أن النهضة تبدأ من الحقول لا من الأبراج. رواندا بعد 1994 لم تُرمّم عاصمتها أولًا، بل أعادت تنظيم الزراعة، وزّعت الأبقار على الأسر، وأطلقت برامج تمكينٍ مجتمعي، فتحولت من دولةٍ مدمّرة إلى واحدةٍ من أسرع اقتصادات إفريقيا نموًّا. فيتنام بعد حربها الطويلة أطلقت إصلاحها الزراعي “دوي موي” (Doi Moi) فضاعف إنتاج الأرز، ثم انطلقت نحو التصنيع والتصدير. أما إثيوبيا فاعتمدت إستراتيجية “التصنيع المرتكز على الزراعة”، فارتفعت إنتاجيتها وخلقت صناعاتٍ خفيفة رفعت النمو إلى أكثر من 8% سنويًا لعقدٍ كامل. القاسم المشترك في هذه التجارب هو إعادة التوازن بين الدولة والإنتاج والمجتمع أي ترجمة عملية لفكرة العقد الاجتماعي الإنتاجي.
في المقابل، أخفقت تجارب أخرى كالعراق ولبنان لأنها تجاهلت هذه القاعدة. مليارات الدولارات أُنفقت على الأبراج والواجهات العمرانية دون إصلاحٍ للزراعة أو الصناعة، فبقي الاقتصاد ريعيًا هشًّا يتهاوى مع أول أزمة. الإعمار الذي يبدأ من العاصمة وينتهي عندها لا يبني اقتصادًا، بل واجهة مؤقتة
يمتلك السودان كل المقوّمات ليصوغ عقده الاجتماعي الإنتاجي الخاص: 175 مليون فدان صالحة للزراعة، لا يُستغل منها سوى ربعها؛ وثروة حيوانية تفوق 110 ملايين رأس؛ ومياه نهرٍ وسدودٍ وطاقةٍ شمسية ورياحٍ قادرة على توليد نهضة حقيقية. لكن ضعف السياسات التمويلية والمؤسساتية جعل هذه الإمكانات معلّقة، كما جعل رأس المال الوطني حبيس المضاربات بدل الإنتاج. وهنا يأتي دور الدولة لتستعيد وظيفتها كمنظّمٍ ومحفّزٍ لا كمتفرّج، تعيد توجيه التمويل نحو القطاعات المنتجة، وتربط الإنفاق العام بمؤشراتٍ فعلية للنموّ والتشغيل.
يمكن للعقد الاجتماعي الجديد أن يبدأ بخطواتٍ صغيرة لكنها مؤثرة: تمويلٍ تعاونيٍّ موجَّه، وصناديقٍ إقليمية للزراعة والصناعات التحويلية، وتعليمٍ تقنيٍّ ريفي، وبنيةٍ تحتيةٍ خفيفة تشغّل أبناء القرى لا المقاولين في العواصم. عندها فقط يصبح الإعمار فعلًا اجتماعيًا مستدامًا، لا مشروعًا ينتظر المانحين.
نحو إعمارٍ منتجٍ يبدأ من الريف
ظلّ السودان لعقودٍ أسير نموذجٍ مركزيٍّ للإعمار يتركّز في الخرطوم ويُهمل الولايات المنتجة، فاختلّ التوازن الجغرافي وتركّزت الثروة في العاصمة بينما ظلت الأطراف في دائرة التهميش والفقر.
لكن بناء المستقبل يتطلب الانتقال إلى إعمارٍ منتجٍ يبدأ من الريف، يقوم على توجيه الموارد العامة إلى الولايات، وإنشاء صناديق تمويل إقليمية للزراعة والصناعات الصغيرة، وتطوير البنية التحتية الإنتاجية من طرقٍ ريفيةٍ وطاقةٍ متجددةٍ ومخازنٍ ومراكز تعبئةٍ وتصدير.
فهذا النهج لا يحقق التنمية فحسب، بل يعيد التوازن بين المركز والأطراف، ويؤسس لعدالةٍ في توزيع الفرص، ويحوّل الريف من منطقة نزوحٍ إلى قاعدة استقرارٍ وإنتاجٍ وكرامة.
الانطلاق من الريف والقطاع التقليدي
أولاً: تأهيل الفضاء الريفي
- حرم القرى الزراعية: ترسيم حدود الحواكير والملكيات التقليدية لمنع النزاعات المستقبلية وضمان العدالة في الوصول إلى الأرض.
- المناطق الزراعية المحيطة بالقرى: تنظيمها كـ”أحزمة إنتاج” تتصل بشبكات ريٍّ بسيطة أو حصاد مياه الأمطار.
- مناطق الرعي ومسارات الماشية: إعادة تحديدها ورسمها جغرافيًا وربطها بآبار المياه ومحطات الخدمة البيطرية.
- الاستراحات الموسمية للماشية: تجهيزها ببنية أساسية خفيفة (مياه مظلات عيادات متنقلة مراكز علف).
ثانيًا: القطاع الزراعي المطري
- الزراعة المطرية التقليدية: دعمها أولًا عبر حزم تمويل موسمية صغيرة، وبذور محسّنة، وخدمات إرشاد متنقلة.
- الزراعة المطرية الآلية: تحديث الآليات القديمة، وتوسيع التأمين الزراعي ضد الجفاف.
- مشروعات حصاد المياه: إنشاء سدود صغيرة وحفائر في مناطق الهشاشة المطرية (دارفور، كردفان، النيل الأزرق).
الفكرة الجوهرية: الزراعة المطرية هي نقطة البداية الواقعية، لأنها تغطي أكثر من 70٪ من المساحات المزروعة سنويًا وتستوعب أكبر كتلة سكانية عاملة في الريف.
ثالثًا: الزراعة المروية
- المرحلة العاجلة:
- إعادة تأهيل طلمبات الري في المشروعات الكبرى (الجزيرة، الرهد، السوكي).
- نظافة الترع والقنوات وإزالة الطمي.
- إعادة توزيع حصص المياه وفق أولويات الغذاء المحلي.
- المرحلة المتوسطة:
- إدخال أنظمة ريٍّ حديثة (الرش والتنقيط) في أطراف المشروعات.
- تطوير المكننة الزراعية والتخزين والتعبئة.
رابعًا: البنية التحتية الريفية والخدمات الأساسية
- المياه الريفية: حفر الآبار وتأهيل الشبكات القائمة لتغطية القرى الزراعية ومناطق الرعاة، وإنشاء خزانات صغيرة لتجميع مياه الأمطار واستخدامها في الريّ التكميلي.
- الكهرباء الريفية: ربط مناطق الإنتاج بالشبكات القومية، وتشغيل وحدات طاقة شمسية ورياح لتغذية المشاريع الزراعية والمراكز الخدمية.
- الطرق الريفية: فتح وتأهيل الطرق الموسمية التي تربط مناطق الإنتاج بالأسواق والمدن، لتقليل الفاقد وتيسير النقل.
- التعليم والصحة: إنشاء وحدات صحية ومدارس أساسية في القرى أولًا، وتدريب الكوادر المحلية بمبدأ “الخدمة مقابل المنحة”.
خامسًا: القطاع الحيواني
- إدارة المراعي والمسارات:
- تحديد المسارات الداخلية والخارجية باستخدام نظم المعلومات الجغرافية (Geographic Information Systems GIS) لضمان استدامة الموارد الرعوية وتخطيطها بدقة.
- تنظيم عبور الماشية عبر الحدود مع جنوب السودان باتفاقات رسمية موسمية لتقليل الاحتكاكات وتعزيز التجارة البينية.
- إنشاء محطات استراحة للرعاة كل 80100 كلم مزوّدة بالمياه والأعلاف وخدمات بيطرية متنقلة.
- الخدمات البيطرية المتحركة:
- إنشاء وحدات متنقلة للتطعيم والعلاج الميداني في مناطق الرحل.
- تحسين خدمات الرعاة بالتأمين الصحي البيطري والتمويل الدوار للأعلاف.
- تأهيل البنية التصديرية:
- تطوير المحاجر البيطرية والمسالخ الحديثة على الطرق القومية والموانئ.
- تطبيق نظام التتبع الحيواني الإلكتروني (Animal ID) لتحسين الجودة والرقابة.
البنيات الأساسية الوطنية: شرايين الإعمار والتنمية المتوازنة
لا يكتمل الإعمار من دون شبكات وطنية للبنية التحتية تربط الريف بالمدن والموانئ والمناطق الصناعية. فالكهرباء والمياه والطرق والاتصالات ليست مجرد خدمات، بل أدوات لتكامل الاقتصاد القومي:
- الكهرباء القومية: التوسع في توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية والمائية والرياح وربط الولايات بشبكات نقل مستقرة تتيح التصنيع الزراعي والخدمات الرقمية في كل الأقاليم.
- المياه القومية: إنشاء شبكة وطنية لإدارة المياه الجوفية والسطحية، وتوسيع محطات المعالجة لتغطية المدن الكبرى ومناطق التعدين والزراعة معًا.
- الطرق والنقل: بناء طريق قومي طولي يربط أقصى الشمال بالجنوب وطرق عرضية تربط الشرق بالغرب، مع ربط المناطق الزراعية بالموانئ والمطارات لضمان حركة السلع والمنتجات.
- الاتصالات والتحول الرقمي: دعم شبكات الاتصالات والإنترنت في الريف لتسهيل التعليم، الخدمات المصرفية الرقمية، والتجارة الإلكترونية الريفية.
- الموانئ والسكك الحديدية: إعادة تأهيل الموانئ البحرية والسكك الحديدية بوصفها العصب الاستراتيجي لتكامل الأقاليم وتوسيع الصادرات.
هذه البنية القومية تمثل الإطار الحامل للإعمار المنتج، وتضمن أن تكون التنمية شاملة، متوازنة، ومتصلة بين أطراف الوطن ومركزه.
من الإعمار الريفي إلى الإعمار الشامل
تُنَفَّذ هذه المرحلة خلال 1218 شهرًا باعتبارها أقل كلفة وأعلى أثرًا في خلق الدخل وفرص العمل.
وعند استقرار دورة الإنتاج الريفي يمكن الانتقال إلى إعمار المدن بما فيها الخرطوم على أساسٍ إنتاجي، لا على قروضٍ تستهلكها المباني.
الخاتمة: من الفكرة إلى السياسة
تُظهر التجارب المقارنة أن الإعمار الفعّال لا يُقاس بعدد الأبراج في العاصمة، بل بقدرة الدولة والمجتمع على تحريك العجلة الإنتاجية واستعادة الثقة من الأطراف إلى المركز نحو تنمية حقيقية تنتشل السودان من هوة الصراعات والفقر.
الإعمار الحقيقي في السودان هو إعمار الإنسان والإنتاج من الحقل إلى المصنع، ومن الريف إلى الخرطوم.
عمر سيد احمد
[email protected]
نوفمبر 2025
المصدر: صحيفة التغيير
