مناظير
زهير السراج
* يتحدث البعض عن دور مصري في إلغاء مؤتمر وزراء خارجية الولايات المتحدة والامارات ومصر والسعودية حول الحرب في السودان والذي كان من المقرر عقده اول امس (التاسع والعشرين من يوليو، 2025 ) في العاصمة الامريكية واشنطن، وذلك للحفاظ على مصالح مصر السياسية والاقتصادية والمائية التي قد تتضرر بشكل كبير إذا توقفت الحرب في السودان وقامت دولة مدنية قوية قادرة على مراجعة الملفات الحساسة مثل مياه النيل وسد النهضة والموانئ الإقليمية والاقتصاد، وهي ملفات تعتبرها القاهرة خطوطًا حمراء، لذلك سعت منذ اللحظة الاولى لسقوط نظام المخلوع البشير في ابريل 2019 وقيام حكومة مدنية في السودان، لزعزعة استقرار السودان واسقاط الحكم المدني وتحريض العسكر على الانقلاب عليه ودعم “الجيش” في الحرب ضد قوات الدعم السريع باعتبارها مليشيا قبلية لا تضمن السيطرة عليها واستمالتها الى جانبها خاصة مع العداء التاريخي بين مصر ومجموعة القبائل التي تنتمي إليها هذه القوات، ولقد نجحت في ذلك بشكل كبير بل ساهمت بشكل عملي في تدمير معظم البنية التحتية في السودان ليظل السودان مفككا وضعيفا وتبقى موارده خاصة مياه النيل تحت تصرفها اطول فترة ممكنة الى ان تجد الوسيلة المناسبة لاخضاعه لسيطرتها بشكل كامل لحاجتها الملحة والدائمة للارض الخصبة والمياه العذبة مع النمو السكاني المضطرد الذي تعاني منه وشح الموارد والتدهور الاقتصادي !* ليس مستبعداً على الاطلاق ان تكون مصر التي سعت منذ بداية القرن التاسع عشر لاخضاع السودان لسيطرتها، ووجود سودان ضعيف تتحكم فيه طمعاً في موارده، هى التي وقفت وراء إلغاء المؤتمر الرباعي، خاصةً أن الادارة الامريكية ظلت منذ عودة الرئيس ترمب مرة أخرى للبيت الابيض في بداية هذا العام (يناير 2025 ) تعمل على إرضاء مصر لحماية المصالح الامريكية والاسرائيلية في منطقة الشرق الاوسط، والدليل على ذلك تصريحات الرئيس الامريكي المنحازة لمصر في موضوع سد النهضة حتى ضد اثيوبيا، الحليفة القوية لأمريكا .. ويبدو أن الرئيس الأمريكي لا يزال يفكر في اقناع مصر بفتح ابواب (سيناء) لاهل “غزة” التي يريد تحويلها الى منتجع سياحي بعد تفريغها من الفلسطينيين !* سواء كانت مصر او لم تكن وراء إلغاء المؤتمر الذي كان من المؤمل ان يعمل على إعادة إطلاق عملية سياسية جدية بين الأطراف المتصارعة في السودان بعد الانسداد الكامل وفشل كل مسارات التفاوض السابقة، فإن الغاءه يعد ضربة قاصمة لمسار التهدئة وحل الأزمة السودانية!* غير ان هذا الإلغاء لم يكن حدثًا معزولًا، بل جاء ليؤكد حقيقة مُرة مفادها أن السودان بات ساحة صراع إقليمي ودولي تُدار فيها المصالح، وتُحسم فيها المعارك الدبلوماسية بأدوات قذرة، وسط انهيار الدولة وتفتت السلطة وتغوّل السلاح.* في إطار هذا المشهد الضبابي، تم اعلان تشكيل ما يُعرف بـ “حكومة تأسيس”، وهى خطوة لم تكن مفاجئة، بل كانت متوقعة منذ الشهور الأولى للحرب بعد فشل منبر جدة واحتلال الدعم السريع لمعظم ولايات دارفور بغرض تأمين نفسها باللجوء الى مناطق حواضنها القبلية اذا استدعى الامر، وهو ما حدث عندما اضطرت للانسحاب من ولايتي الخرطوم والجزيرة تحت ضغط الجيش وحلفائه والتمركز في مناطق نفوذها الطبيعي.* ومع انقطاع الامل في التفاوض وإصرار الجيش المدعوم من الحركة الإسلامية على المضي في الحرب حتى “سحق التمرد”، كما ظل قادته يرددون، وتصاعُد الخطاب العنصري، واستمرار الصراعات التاريخية بين المركز والهامش، وتلميحات بعض الأطراف الموالية للعسكر بفصل دارفور، وإعلان حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، أصبح من المؤكد أن يعلن الطرف المقابل حكومته على الأراضي التي يسيطر عليها، وهو ما حدث بالفعل.* ولكن، مثلما تفتقر حكومة الامر الواقع في بورتسودان إلى الشرعية الدولية والاعتراف الخارجي إلا بشكل محدود، والتي لا تمثل إلا امتداداً لحكم الانقلابات الأمنية التي أنهكت السودان وقسّمت نسيجه، فإن “حكومة تأسيس لن تكون أفضل حالًا، إذ تفتقر هي الأخرى إلى الشرعية السياسية والدستورية، ولن تحظى بدعم خارجي إلا من بعض الدول ذات الأجندات الخاصة!* كما انها تعاني من ضعف بنيوي واضح، سواء من حيث الشخصيات أو التأييد الشعبي، فاختيار حميدتي لرئاسة المجلس السيادي، وعبد العزيز الحلو نائبًا له، ومحمد حسن التعايشي رئيسًا للوزراء، وهو اختيار قبلي الطابع من غرب السودان (دارفور وجنوب كردفان)، لا يُقنع الداخل ولا يطمئن الخارج، خاصة مع افتقار التعايشي للخبرة والكاريزما، وهو ما ينطبق على معظم التشكيلة التي لا تملك مؤهلات الدولة ولا أدوات الحكم.* بين حكومة تأسيس التي تتكئ على بندقية الدعم السريع، وحكومة بورتسودان التي تتكئ على ظهر الكتائب الكيزانية، يضيع السودان أكثر، وتغيب الدولة، ويعاني الشعب بين مطرقة العنصرية وسندان الجهوية، بينما ينشغل المجتمع الدولي بخلافاته وإدارة مصالحه، لا بحماية المدنيين والعمل على استعادة الاستقرار والدولة المنهوبة.* لا حكومة بورتسودان ولا حكومة تأسيس تمثل الحل المطلوب، ولا مؤتمر سيُعقد، ولا مبادرة ستنجح، ما لم يتوقف العبث وتُكسر هيمنة العسكر، ويستعيد السودان دولته المدنية الديمقرطية الحقيقية، التي تحكمها إرادة شعبه، لا أجندات الخارج وأمراء الحرب، وهو ما يتطلب تحركا جادا من كافة القوى المدنية والشعبية السودانية لتوحيد الصفوف ونبذ الانانية والخلافات، والعمل داخليا وخارجيا يدا واحدة من اجل تحقيق الهدف المنشود.
المصدر: صحيفة الراكوبة