اخبار السودان

نانسي عجاج الفنانة الثائرة

✍️ محمد هاشم محمد الحسن

في زمنٍ تُختلط فيه الأصوات، وتتيه البوصلة في دروب الفتنة والخراب، يصدح صوتٌ قادمٌ من رحم الأصالة، يتردد صداه في قلوب الثوار الأحرار، ويشقّ عتمة اليأس بوهجٍ من الإيمان والصدق. إنها نانسي عجاج، ليست مجرد فنانة تُطرب الأسماع، بل هي روحٌ وطنيةٌ متجذرة، ورمزٌ للمقاومة والإباء، ومجدولةٌ بخيوطٍ من فخر الثورة ونبل المواقف.

منذ أن بزغ فجر ثورة ديسمبر المجيدة، لم تتردد نانسي، ابنة النيل وسليلة المجد، في أن تكون في طليعة الصفوف. كانت تغني لا لتُطرب فحسب، بل لتُحرّض على الصمود، وتُخلّد ذكرى الشهداء الأبرار، وتُوثّق بصدق مشاعر شعبٍ أزاح كابوس الظلم. صوتها، الذي صدح عالياً في ساحات الاعتصام، لم يكن يوماً حنيناً عابراً، بل كان مدفعيةً تلهب الحماس، وترسم لوحات الأمل على جدران اليأس. لقد غنت للحرية، ورتلت لأرواح الشهداء، وتغزلت في عظمة شعبٍ أبيٍّ رفض الذلّ والانكسار. كيف لا وهي الكنداكة التي أشعلت نار الثورة السودانية بأغنيتها الخالدة (يا ليتهم)، فكانت كلماتها سهاماً تخترق الظلم وتوقظ الضمائر:
يا ليتهم……. وبنفس قوة بطشهم بالابرياء……
بطشو بمن سرق الرغيف من الجياع…
أو ليتهم وبنفس لهفتم على سفك الدماء استرجعو شبرا من الوطن المضاع……
لكنهم ولبؤسهم هم نفسهم من اوردو الناس المهالك والمذلة بالخداع
من أين جاء هؤلاء… ؟ خذني حبيسا كن رئيسا..جرع الناس الشقاء
من أين جاء هؤلاء….. ؟خذني حبيسا كن رئيسا ولترق كل الدماء
من أين جاء هؤلاء… ؟ ولأي دين يتبعون… ؟
لايشبهون الناس في بلدي بتاتا لاهم لأرضنا ينتمون
من أين جاؤوا يحكمون… .؟
لكنهم لا يعلمون بأننا أحفاد تاسيتي العظيمة والمقرة أحيت النيران من سنار فينا صلاتا بالتالف مستمرة
عظماء!… من طين المكارم قد خلقنا….. وكستنا الشمس سمرة طيبون…… .قلوبنا بالحب تهدي الأرض وردا وسلاما……. ثم للناس المسرة.

في خضمّ العاصفة التي اجتاحت السودان، وحينما تلاطمت أمواج الحرب على شواطئ البلاد، لم تكن نانسي عجاج ممن يتوارون خلف ستار الخوف، أو يهرولون نحو صفقات الذلّ والخنوع. لقد واجهت حملات التشويه والاتهامات الباطلة بصمودٍ قلّ نظيره، مؤكدةً أن مواقفها الوطنية ليست رهناً لمكاسب زائفة أو تهديدات عابرة. كانت واضحةً كالشمس في موقفها، ثابتةً كالجبل في وجه الرياح العاتية. رفضت أن تكون بوقاً لأصوات الدمار، أو قيثارةً تُعزف على أوتار التفرقة والشقاق. كان إيمانها بوحدة السودان، وسلامة شعبه، ومستقبل أجياله، هو البوصلة التي وجهت خطاها، والصخرة التي تحطمت عليها كل محاولات الابتزاز والتخويف.

ليسمع البلابسة، وليصغ المرجفون، وليتوقف تجار الحرب عن بث سمومهم، إن نانسي عجاج ليست صوتاً يمكن احتواؤه أو ترويضه. هي ليست مجرد فنانة تنتظر التصفيق والمديح، بل هي ضمير أمة، وصدى لملايين ترفض العودة إلى عصور الظلام. إنها مثالٌ حيٌّ على أن الفن الحقيقي هو فنٌّ ملتزمٌ بقضايا الوطن، ومرآةٌ تعكس آمال وآلام الشعوب. تاريخها الفني المشرف، وأصولها العريقة التي تجمع بين صفاء الروح وصدق الانتماء، تجعلها في منأى عن تفاهاتهم وسفاسف أقاويلهم. إنهم يحاولون النيل من قامتها الشامخة، وهي التي لم ترَ في الفن سوى وسيلة للارتقاء بالروح والوطن
.
ولم تتوقف إنسانية نانسي عند حدود صوتها الثائر، بل امتدت لتشمل قلباً ينبض بالرحمة والعطاء، فكانت سفيرة التطوع لمنظمة اليونيسف لرعاية الأطفال، لتؤكد أن فنانة الثورة هي أيضاً فنانة الإنسانية، تمد يد العون للمستضعفين، وتضيء شموع الأمل في حياة أطفالٍ قد طالهم لهيب المعاناة.

يا فنانة الثورة الخالدة، ويا من رسمتِ بألحانكِ ملامح السودان الجديد، لا تلتفتي لأصوات النشاز التي تحاول تشويه صورتكِ الناصعة. دعيهم ينهقون في دياجير ظلامهم، فصوت الحق الذي ينبعث منكِ أقوى من ألف مدفع، وأكثر تأثيراً من ألف بيان. استمري في عزفكِ على أوتار الأمل، وفي ترتيلكِ لقصائد الصمود، وفي رسمكِ للغد المشرق. فالسودان، هذا الكنز العظيم، ما زال ينبض بالحياة، وما زالت أجياله تتطلع إليكِ كمنارةٍ لا تنطفئ، ومصدر إلهامٍ لا ينضب. أنتِ، يا نانسي، أكثر من فنانة، أنتِ قصة وطنٍ يرفض الموت، ويرسم بدموع أبنائه وأصوات ثواره طريقاً نحو النصر المؤزر.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *