رشا عوض
رشا عوض


 

ميثاق تأسيس ..تقرير مصير ام قرار انفصال؟

رشا عوض

لقد عاصرنا في هذا العالم على سبيل المثال دولة اسمها الاتحاد السوفيتي ودولة ثانية اسمها يوغوسلافيا وثالثة اسمها تشيكوسلوفاكيا ، والآن لا وجود لهذه الدول! إذ تفكك الاتحاد السوفيتي، والاتحاد اليوغوسلافي وانقسمت تشيكوسلوفاكيا الى دولتين: سلوفاكيا والتشيك.
حفاظ الدولة على وحدتها يعتمد على الملابسات التاريخية لتشكل الدولة نفسها، وعلى قناعة الشعب وارادته مع وجود نخبة سياسية قادرة على تجسيد هذه الارادة باقتدار عبر الوفاء باستحقاقات الوحدة، فضلا عن وجود عوامل خارجية يمكن ان تحفز النزعات الانفصالية وتدفع باتجاهها ( الحالة السودانية كمثال) او تعارضها وتضع امامها العراقيل( الحالة الكردية في تركيا والعراق وسوريا كمثال).
مستقبل السودان بكل اسف مفتوح على التقسيم الذي تتوفر عوامله الداخلية والخارجية. ومواجه بتحدي كبير وخطير لا يجدي معه طمأنة النفس بأن السودان حالة استثنائية وعصي على الانقسام! إذ لا توجد أدلة واقعية على ذلك لان السودان انقسم بالفعل الى دولتين عام 2011 وهو الآن يعيش بالفعل حالة انقسامية بوجود حكومتين تسيطر كل منهما بالقوة العسكرية على أجزاء من مساحة البلاد.
ولو طال امد وضعية الحكومتين، وطال امد الحرب ، مؤكد سوف تتراكم مصالح نفوذ سياسي واقتصادي في دارفور وكردفان تحت ظلال بنادق الدعم السريع وحلفائه ، وسوف يحرص اصحاب هذه المصالح على استدامتها عبر الانفصال.
السؤال الملح الآن هل بعد سبعة عقود من تاريخ السودان المستقل وهي عقود مثخنة بجراح غائرة ومؤلمة لم تستثن اقليما، وقد بلغت ذروتها في حرب الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣ ،هل فرص التعافي دون عملية بتر جديدة لجزء من هذا الوطن ممكنة؟
اتمنى ان تكون ممكنة، ولكن لن يتحقق ذلك الا بشرط وجود ارادة حقيقية للتعافي واستعداد لتناول الدواء مهما كان مرا لبعض اطراف الصراع العسكري الراهن.
هل الحرص على وحدة السودان مجرد حالة عاطفية وارتباط وجداني يتفاوت حسب الظروف المحيطة بكل مواطن او مجموعة مواطنين؟ ام ثمت اسبابا موضوعية لمعارضة التقسيم؟
الاجابة شاخصة في تجربتنا مع الانفصال! اذا اتفقنا ان الغاية العليا لأي عمل سياسي يجب ان تكون أمن وسلام وحرية ورفاه الانسان السوداني وهذا مقدم على اي انحياز ايدولوجي للوحدة او الانفصال، سوف ندرك ان تمكين المواطن من حقوقه تلك رهين للحكم الراشد باركانه الاربعة (المشاركة والشفافية والمساءلة وسيادة حكم القانون) ومشروط بالارتباط العضوي بقيم الحرية والعدالة وحقوق الانسان العالمية وأهداف التنمية البشرية والاقتصادية، بدون ذلك سيكون الانفصال هو ميلاد لدولة بذات مظالم واخفاقات وعنف وتخلف الدولة الام او اضل سبيلا.
بكل اسف هذا ما حدث في انقسام السودان الماضي في ٢٠١١ ببندقية الحركة الشعبية ، وحسب المعطيات الموضوعية سوف يتكرر بصورة اكثر مأساوية في انقسامه المستقبلي الذي نتمنى ان لا يتم والمخطط له ببندقية الدعم السريع وما تبقى من بندقية الحركة الشعبية وبعض الحركات المسلحة في دارفور.
لماذا نتوقع ان انفصال دارفور واجزاء من كردفان سيكون اكثر مأساوية من انفصال الجنوب؟
السبب هو ما رأيناه من تجربة قوات الدعم السريع في المناطق التي سيطرت عليها خلال هذه الحرب من فوضى وانتهاكات مروعة وهذا يعود لطبيعة قوات الدعم السريع نفسها ، فهي ليست حركة سياسية منظمة لها اذرع مؤسسية مؤهلة فنيا للادارة والحكم ، وبحكم ان هذه القوات نشأت في ظل نظام الانقاذ ، مؤكد انها مخترقة من ذلك النظام وكثير من عناصرها تتصف بصفاته من فساد واستعلاء بالقوة على المواطنين.
وهناك سببا اخر وهو طبيعة اقليم دارفور وتركيبته السكانية وخلفية الصراع العنيف بين مكوناته القبلية، وكذلك وجود الملايين من الدارفوريين في اقاليم السودان الاخرى التي يشكلون جزء من نسيجها الاجتماعي منذ عشرات السنين وغير مستعدين لمغادرتها، ولذلك من الصعب توحيد سكان اقليم دارفور على مطلب الانفصال مثلما حدث في جنوب السودان.
ومن المستحيل اقناع الدارفوريين بالخضوع لسلطة بندقية الدعم السريع! الانفصال سيكون وصفة احتراب اهلي بين سكان الاقليم خصوصا ان كل حملة السلاح في دارفور لا يحملون رؤية استراتيجية للسلام والتنمية والحوكمة الرشيدة في الاقليم.
صحيح ان ” ميثاق السودان التأسيسي” الذي تم توقيعه بنيروبي في فبراير ٢٠٢٤ من الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور وعدد من الحركات المسلحة في دارفور وكذلك بعض القوى السياسية والمدنية حوى عددا من المبادئ التي اتفق معها واعتبرها فعلا من مقتضيات التأسيس الجديد لسودان مسالم وديمقراطي ومستقر وعلى رأسها: خيار التفاوض ومخاطبة جذور الأزمة كسبيل لإنهاء الحرب، علمانية الدولة، تأسيس جيش جديد قومي ومهني، الحكم المدني الديمقراطي وصولا الى انتخابات حرة نزيهة، ولكن هذه المبادئ تكرر حشدها في عشرات المواثيق السودانية ولم تجد طريقها الى ارض الواقع لانها رفعت فقط على فوهات البنادق في غياب تام للروافع المؤسسية القادرة على تطبيقها. لذلك فانها بكل اسف ستذهب أدراج الرياح وتدفن تحت غبار المعارك العسكرية والانتهاكات المصاحبة لها، لا اقول ذلك رجما بالغيب بل من استنادا الى امرين ، الأول هو استقراء تجربتنا الوطنية في فصولها القريبة جدا( اتفاقية السلام الشامل المعروفة شعبيا باتفاقية نيفاشا في ٢٠٠٥ ) تلك الاتفاقية التي تحدثت عن الوحدة الجاذبة واطلقت على الحكومة التي تشكلت على أساسها ” حكومة الوحدة الوطنية” وقد رأينا المآلات: انقسام السودان لدولتين، اشتعال الحروب الطاحنة في الدولة الام وكذلك في الدولة الجديدة( جمهورية جنوب السودان) التي ورثت عن الدولة الأم الاستبداد والفساد والاستخفاف بالمواطنين عبر اهمال التنمية الاقتصادية والبشرية واستخدام السلاح في حسم الصراع السياسي.
الامر الثاني، هو ما اسميه ” معضلة البندقية المهيمنة” و” النظام المهيمن على السلطة المركزية” والمساومات الانفصالية بينهما ، مهما قيل عن تعدد الأطراف في هذا ميثاق نيروبي تظل ” بندقية الدعم السريع ” هي القوة المهيمنة على هذا التحالف الجديد بحكم سيطرتها على مساحة أكبر في الميدان العسكري وامتلاكها لمقدرات مالية اكبر،و لذلك فان ” الدعم السريع” في خاتمة المطاف هو من سيجلس للتفاوض مع ” سلطة بورتسودان اي السلطة المهيمنة ” المستعدة للتضحية بوحدة السودان، خصوصا إذا تمكن منها الاسلامويون اكثر من تمكنهم الحالي ، والراجح أن ” الدعم السريع” سيقبل بصفقة انفصالية، وسيؤيده حلفاؤه العسكريون وسوف يبررون ذلك بأن ” السلطة المهيمنة في المركز” رفضت تنفيذ بنود ميثاق نيروبي او حتى بنود اي اتفاق سلام مستقبلي، وبالتالي سيطالبون بتنفيذ مطلبهم اي تقرير المصير!

ان ” تقرير المصير” حق ديمقراطي لا يجوز رفضه او استنكاره بالمطلق ، المشكلة في السودان هي غياب الديمقراطية التي تعني بالضرورة غياب حق تقرير المصير بواسطة الشعب المعني!
في السودان ليس هناك تقرير مصير بل هناك ” قرار انفصال” تفرضه بنادق المحتجين على سلطة المركز الظالمة والفاسدة والمستبدة وفوق كل ذلك فهي ” غير وحدوية وغير وطنية” واعني هنا سلطة المركز في نسختها الاسلاموية، حيث فضلت هذه السلطة وما زالت تفضل تقسيم البلاد على التخلي عن السلطة و القبول بالتغيير وإعادة هيكلة الدولة سياسيا واقتصاديا لصالح غالبية المواطنين وتجفيف وقود التعبئة الانفصالية ممثلا في المظالم والتمييز.
اسكوتلندا مثلا امتلكت حق تقرير مصيرها عبر الاستقلال عن المملكة المتحدة وقد مارست هذا الحق عبر استفتاء شعبي عام ٢٠١٤ ولكن نتيجة الاستفتاء جاءت لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة بنسبة ٥٥% بمعنى ان هناك ٤٥% من الناخبين كانوا يريدون الانفصال، ولكن لأن قواعد اللعبة الديمقراطية هناك مقدسة قبل الجميع بنتيجة التصويت ولم يتعارك المواطنون ، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ربما انعقد استفتاء اخر لاستقلال اسكتلندا وربما كانت النتيجة لصالح الاستقلال هذه المرة ، ولكن في جميع الاحوال هناك مواطنين احرار يختارون ما يرغبون فيه دون وصاية من بنادق مرفوعة فوق رؤوسهم، وفي بيئة سياسية تسود فيها الحريات وتكافؤ الفرص الأمر الذي يجعل الناخب على بصيرة من أمره ويختار بناء على مفاضلة حقيقية بين الخيارات المطروحة أمامه والتي يتم نقاشها بالتفصيل في وسائل الاعلام الحرة.
هل هذه البيئة متوفرة في السودان؟
مؤكد لا توجد اي بيئة مواتية لتمكين المواطنين من الاختيار الحر في الاقاليم التي ترفع الحركات المسلحة فيها راية تقرير المصير ، فكل الحركات المسلحة في السودان تفتقر للتقاليد السياسية التي تقيم وزنا للمواطنين المدنيين بل تقرر هي نيابة عنهم حسب مقتضيات مصالح القيادات العسكرية .
ان وحدة السودان هي الان على المحك مجددا وبصورة اكثر خطورة مما كانت عليها غداة التوقيع على اتفاقية نيفاشا ، والتصدي لخطر التقسيم لن ينجح عبر تجريم حق تقرير المصير ولا عبر تخوين من يطالبون به ، الخطوة الاولى نحو النجاح هي ادراك حقيقة ان الدولة السودانية بشكلها القديم لم تعد قابلة للحياة ولا بد من اعادة بنائها على اسس جديدة ، وقبل ذلك يجب ان نمتلك جرأة الاعتراف بكل عيوب الوضعية القديمة وتعرية كل المسكوت عنه فيها ، وبذات العقلية النقدية نتناول تجارب الاحتجاج المسلح على المركز لاستخلاص الدروس الصحيحة منها لنستكشف الطريق الى الامام على بصيرة.
كانت اول مقالة لي بعد انفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو ٢٠١١ بعنوان : السودان اما ان يتجدد واما ان يتبدد! بسببها تمت مصادرة صحيفة الجريدة في اليوم التالي!!
هل مصادرة ذلك الرأي ادت الى ان يكون السودان جنة نعيم وعصمته من جحيم الحرب والانقسام .

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.