موسيقيون سودانيون نازحون: لأن الحرب استمرّت طويلاً
يحرص موسيقيون سودانيون نزحوا إلى مصر ضمن أكثر من أربعة ملايين نازح، بحسب تقديرات المنظمة الدولية للهجرة، على الاستمرار في نشاطاتهم الفنية، رغم ما سلبته منهم حرب أدّت إلى نزوح 11 مليون سوداني، لكنها لم تقدر على انتزاع شغفهم بفنهم، متحدين ظروفاً معيشية صعبة في مصر.
هذا الوضع الجديد استلزم إطلاق عدد من المؤسسات التي يمكن أن تقوم على خدمة الفنانين النازحين، كان منها اتحاد تجمع الفنانين السودانيين الذي تأسس في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بغرض التنسيق مع المؤسسات الفنية المصرية من أجل تيسير نشاط مواطني الاتحاد الفنانين. فإلى جانب العوائق الإدارية التي قد تحول دون القيام بعملهم، يرى المخرج زهير عبد الكريم مؤسس اتحاد الفنانين السودانيين في مصر، أن مواطنيه يواجهون صعوبات في التسويق لمنتجهم الفني، خاصة بعدما انقطعوا عن الفعاليات العربية والمهرجانات الدولية لمدة تجاوزت الثلاثين عاماً، لذلك يضطلع الاتحاد بدور رئيسي في الترويج للمنتج الفني السوداني.
يتبع “تجمع الفنانين السودانيين” اتحاد الفنانين العرب، الذي يعود له الفضل في تيسير إنشاء الأول، في حين يستغل الاتحاد الوليد هذه الرابطة لإعادة دمج فنانيه بالفعاليات والمهرجانات العربية، كما يعمل الاتحاد السوداني على تسهيل انخراط فنانيه في مجتمع النزوح من خلال فعاليات ثقافية وفنية متعددة، يشرف على تنظيمها ويحضرها المصريون والسودانيون.
يأمل عبد الكريم في ما يخص الموسيقى أن تتعاظم مشاركة الفنانين المصريين في فعالياتهم الفنية المختلفة بغرض مزيد من التقارب، ومن أجل تحقيق ذلك يتعاون الاتحاد في ما يخص الفعاليات الموسيقية مع معهد الموسيقى العربية.
في القاهرة، تستقر اليوم فرقة الكاميراتا، وهي فرقة للفن الشعبي تأسست في السودان عام 1997، في حين بلغ عدد أعضائها قبل الحرب 40 عازفاً وراقصاً ومغنياً، أما مؤسسها فهو الفنان دفع الله الحاج، الذي درس الموسيقى في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الخرطوم. انطلق بعدها في أنحاء السودان يجمع الآلات الموسيقية الشعبية، موثقاً كل ما يخصها ليؤسس متحفاً أودع به كل ما تحصل عليه من آلات، لكن الحرب جاءت، للأسف، فعصفت بجهد 28 عاماً شملت جمع وتصنيف وتصنيع هذه الآلات، إذ تعرض المتحف للتدمير والسرقة التي مارستها مليشيا الدعم السريع.
يذكر دفع الله أن اتساع رقعة المعارك، جعله يستشعر خطراً على أسرته، فسارع للمغادرة إلى مصر، فدخلها بطريقة “غير نظامية” عبر رحلة طويلة وشاقة استغرقت ثمانية أيام، وذلك بسبب الوقت الطويل الذي تستغرقه تأشيرة الدخول الرسمية، فلم يكن بوسعه الانتظار.
بعد أن رتب دفع الله أوضاعه بمساعدة مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، واستقر في مصر، أعاد تأسيس “الكاميراتا”، وإن تقلص عدد أعضاء الفرقة إلى 11 موسيقياً وراقصاً، في حين ضمت أعضاء جدداً من مصر.
لم يكتمل ذلك من دون صعوبات تغلب عليها الفنان السوداني، ففي البداية كانت تنقصه الآلات، لكن توفر المواد المطلوبة في مصر أتاح له تصنيع ما يحتاجه منها. مشكلة أخرى واجهت “الكاميراتا” مع بدء نشاطها في شهر فبراير/شباط الماضي، إذ فُرضت على الفرقة غرامات مالية، فلم يكن دفع الله يعلم بضرورة الحصول على تصاريح تسمح لها بالعمل رسمياً، ليتدخل اتّحادا الفنانين العرب والفنانين السودانيين لدى نقابة المهن الموسيقية المصرية ويتخذا كل الإجراءات اللازمة حتى تمارس الفرقة نشاطها قانونياً.
أقامت “الكاميراتا” عدداً من الحفلات خلال هذا العام، فكان أول حفل لها في مقر الجامعة الأميركية، كما قدمت عرضاً في المركز الثقافي الإيطالي، إلى جانب عدد من الفعاليات في السفارات والمسارح الجامعية، وكان آخر ما قدمته “كاميراتا” حفلاً كبيراً حضره المئات من السودانيين والمصريين في المركز الثقافي الروسي. أدّت الفرقة أعمالها بآلات الطنبور والنقارة (نوع من الطبول) والبلوناجروه، والبانمبو (آلة إيقاع) وآلة الجورميه (آلة وترية). أما الأغاني فكانت من النوعية التي تهتم الفرقة في هذه الفترة بتقديمها وترتبط، كما نبه دفع الله، بالدعوة إلى السلام، مثل: “الله يصلح الحال ونرجع البلد”، و”أصل السلام”.
موسيقيون سودانيون كثر تهجروا مع الحرب، بينهم هشام كمال، مغنّ ومؤلف ومدرّس موسيقى، تخرج من كلية الموسيقى والدراما السودانية، من شعبة التأليف والبيانو والنظريات الموسيقية، عمل بعدها مديراً فنياً لمجموعة ساورا الغنائية، كما مارس الغناء الفردي.
كانت لدى كمال مشروعات فنية عدة شرع بتنفيذها قبل الحرب، منها تسجيل 15 أغنية لمجموعة ساورا، لكن الحرب عاجلته فلم يطلق من تلك الأعمال غير أغنيتين فقط، وبينما كان قد شرع بالفعل في تسجيل ست أغان أخرى، فوجئ بالهجوم على الاستديو الخاص بالفرقة، ليُدمّر وتُنهب جميع تجهيزاته، من بينها آلات موسيقية قيّمة، كانت الفرقة قد استلمتها قبل بدء الحرب بأسبوع فقط، إلا أن أكثر ما يحزن الموسيقي السوداني هو فقدان جميع الداتا الخاصة بالفرقة بفعل النهب والدمار الذي لحق بالاستوديو.
يحكي كمال أنه مثل الجميع تصور أن الحرب لن تستمر طويلاً، لكن اتساع مداها أسبوعاً تلو الآخر، كشف أنها لن تنتهي على المدى القريب، ولأن الرصاصة الأولى في تلك الحرب أطلقت من المنطقة التي يقطنها كمال، وهي منطقة المعمورة، فكان من أوائل النازحين، فاضطر في البداية إلى الفرار نحو جنوب الخرطوم، لكن بعد يومين فقط امتدت الحرب إلى هناك، لينزح مرة أخرى إلى أقصى شمال السودان، ومن الشمال التجأ إلى مصر.
واجه الموسيقي السوداني كثيراً من التحديات المتعلقة بظروف العمل لدى وصوله القاهرة، خاصة أنه فُصِل من المدرسة التي عمل فيها مدرس موسيقى، إذ تلقى رسالة إلكترونية رسمية تخبره بذلك في اليوم الذي غادر فيه السودان، وجاء قراره بالسفر إلى مصر “لأني عشت فيها سابقاً وأعرفها جيداً وأعرف أهلها”.
بمساعدة اتحاد تجمع الفنانين السودانين، بدأ هشام كمال نشاطه الفني مجدداً، إذ ساهم في تأسيس أوركسترا وكورال تابع للاتحاد تحت اسم أصوات سودانية، هذا بخلاف عدد من الحفلات الغنائية التي أحياها المغني السوداني في مقر الاتحاد والجامعة الأميركية في مناسبة تأبين أبو الصحافة السودانية محجوب محمد صالح، وقدم حفلاً أيضاً في دار الأوبرا في افتتاح الفيلم السوداني “وداعاً جوليا”، وذلك بمشاركة كورال الاتحاد، كما أحيا كمال حفلاً آخر تحت اسم حفظ التراث السوداني لحساب منظمة يونسكو. وإلى جانب كل ذلك، يعمل كمال في مجال تدريس الموسيقى للأطفال بإحدى المدارس المصرية، آملا أن تتحسن الأحوال وتستقر الأمور في بلده التي دمرتها الحرب.
الغربي الجديد
المصدر: صحيفة الراكوبة