عاطف عبد الله

 

تعاقد الكاتب العالمي الشهير مع دار نشر مرموقة على إصدار رواية جديدة. وقبل أن يخط سطراً واحداً، قبض مقدم العقد مبلغًا ضخماً بالدولار، تتقدمه ستة أصفار.

 

حرصاً على راحته وإلهامه، استأجرت له الدار جناحاً فاخراً في منتجع مترف. غير أنه ظل جالساً قرابة شهر أمام الآلة الكاتبة، عاجزاً عن كتابة كلمة واحدة. حتى العنوان استعصى عليه. لقد نضبت ينابيع الخيال، واستُهلكت كل المواضيع. كتب عن الحب والحرب، عن المجد والانكسار، عن الماضي والحاضر، عن الدين والسياسة … حتى تيبّست أنامله، وجفّ نبع إلهامه.

 

كان الناشر يطل عليه من حين لآخر، يطالبه بالفصل الأول لأغراض المراجعة والترويج، لكنه كان يراوغ، يتظاهر بالتأمل، ويحاول عبثًا استحضار شرارة الكتابة … لكنها لم تعد.

 

وفي لحظة يأس قاتمة، تذكّر تلك الرسالة التي تلقاها يومًا من كاتب مغمور في إحدى دول العالم الثالث، كانت مرفقة بمخطوطة روايته الأولى ورسالة يشكو فيها عزلته وسوء حظه في النشر. لم يكلف نفسه حتى فتحها. ألقاها مع المخطوطة في سلة المهملات الرقمية.

 

الآن، وقد ضاقت به السبل، عاد ينبش في مكب نفايات ذاكرته الرقمية حتى عثر عليها. نفض عنها الغبار، وقرأ المخطوطة لأول مرة. كانت بعنوان “الأحلام الشجية في البلاد المنسية”. تحكي عن شاعرٍ مغنٍّ ظل معتقلاً لسنوات طويلة في سجن ناءٍ تحت حكم عسكري غاشم، في دولة صغيرة تعتمد على حماية قوة عظمى … الدولة ذاتها التي ينعم فيها الكاتب بالحرية والرفاه.

 

يتعرض الشاعر في الرواية لأبشع صنوف التعذيب، لا لشيء سوى أنه يحلم بوطنٍ حر، كريم، مستقل بموارده، يسوده السلام والحرية والعدالة. وفي خاتمة الرواية، تندلع ثورة شعبية تسقط النظام الفاسد المستبد، ويخرج الشاعر من المعتقل محمولاً على أكتاف الجماهير.

 

بدأ الكاتب الكبير بإعادة تحرير الرواية: يراجع، يعدّل، يحذف، يضيف. استبعد العبارات البسيطة، والكلمات المحلية، وأعاد صياغتها بلغة متأنقة، متعالية، متغطرسة، تليق بمكانته ككاتب عالمي. وحين بلغ الفصل الأخير، توقف. ثورة وتغيير!!، لم تُعجبه تلك النهاية؛ بدت له حالمة وساذجة.

 

فأعاد كتابتها بنبرة أكثر “واقعية”: يموت فيها الشاعر، وتبقى السلطة، وقد بدّلت جلدها وازدادت بطشاً وقسوة.

 

ثم، دون تردد، طبع اسمه على الغلاف، وغيّر العنوان إلى “موت شاعر”، واتصل بالناشر ليقبض بقية العقد.

 

لكن رغم أنه قتل الشاعر على الورق، لم يفلح في محوه من أعماقه. ظل الشاعر حيّاً في ذاكرته، تطن كلماته في أذنيه، وتتردد أناشيده في روحه … حتى مات.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.