اخبار السودان

موت اللغة وعجز الكلام أمام هول الفجيعة المتجددة المتكررة

موت اللغة وعجز الكلام أمام هول الفجيعة المتجددة المتكررة

بكري الجاك

هنالك متلازمة معروفة تسمى The FrogBoiling Syndrome أو متلازمة الضفدع الذي يغلي، وتقول الحكاية إن الضفدع لا يمكن طبخه إذا تم رميه في ماء ساخن، الشعوب التي تعودت على أكل الضفادع تعلم أن طريقة طبخها تبدأ بوضعها في إناء به ماء بارد ومن ثم وضع الإناء في نار هادئة ثم زيادة درجة الحرارة تدريجياً.

الحكمة المستقاة من التجارب تقول إنه إذا تم وضع الضفدع في ماء ساخن سيقفز، أما في الماء البارد سيجلس الضفدع سعيداً بطبخه في هدوء وصمت.

المدلول المعرفي للمتلازمة أن الناس لا تشعر بالتغيرات التدريجية التي تحدث من حولها وأن أي كائن بإمكانه التعود على كل شيء إذا تم تدريجه سواء كان ذلك التصالح مع الأوساخ في البيئة المحيطة أو في الذات أو التعوٌّد على الطقس أو القبول بالروائح النتنة أو التصالح مع القبح كأمر عادي لأنه تم تدريجه.

وهذا ما يوضح عادة دهشة العائدين إلى السودان بعد كل فترة بما في ذلك الذين يغادرون لأيام أو شهور محدودة حين تجدهم يتحدثون عن مدى اتساخ شوارع المدن في البلاد بشيء من الدهشة التي قد تذهل الناس الذين تعودوا على هذه المناظر بشكل يومي.

في سنوات خلت وإبان مشاركة لي في رحلة عمل إلى مقديشو لعدة ساعات حيث كان القتال في أوجه، توقف القتال عند آذان الظهر حين وصولنا وعاود ما إن انتهت الصلاة وتكرر الأمر نفسه عند صلاة العصر، وفي هذه الزيارة الخاطفة تحدثت إلى رجل في الستين من عمره على قدر من التعليم عن مدى قدرته على التعايش مع مثل هذه الظروف من حرب وموت وعدم استقرار، فقال لي هل سمعت يوماً أن السمك قد ضاق ذرعاً بالبحر لأن هنالك عاصفة، قلت لا، فقال إذا مكثت طويلاً ستجد في أمر النجاة كل مرة متعة تعطيك إحساساً بالإنجاز.

وبعد ذلك بأعوام وإبان عمل لي في مركز لبناء السلام في أسمرا كنت قد التقيت مبعوثاً بريطانياً للقرن الأفريقي وكان يسأل عن طرق إحلال السلام في الصومال، في الاجتماع الرسمي قلنا الحديث الرسمي المٌنمّق والمٌبوّب والمدعوم بنظريات فض النزاعات، الحديث الذي لا أجد له جدوى إلا في الكثير من التقارير الطويلة التي يكتبها أصحاب الياقات البيضاء لتعقيد ما هو بسيط لاضفاء شرعية على مرتباتهم الفخيمة.

وفي المساء كان اللقاء الغير رسمي في ضيافة السفيرة البريطانية وقام المبعوث بالسؤال مرة أخرى، وحينها قلت له كما يقول الناس حين يرغبون في الحديث بحرية Of the records أي خارج السجل الرسمي أن أفضل طريقة لإحلال السلام في الصومال في ظني أن تقوم جلالة الملكة أو أي جهة معنية بالبحث عن جزيرة هادئة يفضل في البحر الكاريبي وإحضار كل القيادات التي تشارك في الحرب وتركهم في هذه الجزيرة لمدة ستة أشهر ومنحهم فرصة التعرف على الحياة ومن ثم سؤالهم بكل بساطة عن ماذا يريدون، حُجتي كانت أن الحديث عن السلام مع من لا يعرف معنى السلام هو محض ترف نظري، فجل قيادات الحركات التي كانت وما زالت تقاتل في الصومال وُلدت وترعرعت على أصوات الرصاص وكما قال لي الرجل الستيني ماذا يضير السمك إن ضربت البحر عاصفة؟

العلاقة بين متلازمة الضفدع الذي يغلي وصناعة السلام في الصومال أن لا شيء يدهش البتة حتى الموت والعنف والقتل متى دُرّج وأصبح أمراً معتاداً.

ومن هول الفجيعة يمكن للغة أن تموت كما يموت الناس وأن الكلام لا يقول شيئاً سوى محض همهمات أشبه بحركة تروس اعتيادية في أي آلة تتحرك وكأنه فعل لا إرادي، لكنه خالي الوفاض من أي معنى.

بالأمس واليوم رغم أنني شهدت ردة فعل عاطفية قوية (في ظاهرها) من العديد من السودانيين في داخل وخارج البلاد على عملية القتل التي تمت في وضح النهار وأمام شاشات التلفونات في موكب الثورة السودانية الذي خرج بالأمس منادياً بالحق في الحياة الكريمة ومطالباً بمدنية الدولة وبوقف العبث المنظم بمقدرات البلاد، إلا أن كل ما قيل لم يعدو سوى أنه كلام والبيانات التي ما تزال تترى تملأ الفضاء كانت هي أشبه برائحة الموت من أن تضيف معنى أو أن تُعبّر عن هول الفجيعة، فهي لا تقول شيئاً مثلها مثل صمت الضفادع التي تسعد بالجلوس في قعر الإناء وهي تُطبخ في كامل صمتها وبهائها وقِلة حيلتها.

خلاصة القول إن الأمر الذي جعل إنساناً بكامل قواه العقلية وبكامل أهليته التي مكنته من العمل كشرطي لكي يقوم بإطلاق الرصاص هكذا وبكل فجيعة ودون أن يرمش له جفن على طفل بالكاد يكون قد بلغ الحلم هو ما لا يمكن تفسيره بأن الإفلات من العقاب وحده ما يدفع مثل هذا الشرطي إلى احتراف القتل وكأنه نزهة في حديقة عامة، فمنطق الأشياء يقول إن الغالبية العظمى من الناس (أياً كانت مهنهم) وازعها الذاتي هو الذي يمنعها من القتل والتسبب في الأذى وليس الخوف من القانون، بل في تقديري ما يفسر هذا السلوك هو استسهال الحياة واسترخاص الموت في المخيال الاجتماعي السوداني وفي سياق الظرف الاجتماعي والسياسي الذي حولّنا إلى ضفادع تجلس على ماء بارد بما في ذلك ذاك الصنم الأجوف الذي يعتقد أنه يسيطر على درجة حرارة الماء ويزيدها بتدرُّج.

أمام هذا الهول من الفجيعة المتجددة المتكررة لم يعد هنالك ما يقال فقد ماتت اللغة وعجز الكلام.

1 مارس 2022

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *