اخبار السودان

مهمة وطنية (قبرت) ولم يسمع بها أحد..! (هؤلاء مجموعة منحرفة من الشيوعيين والبعثيين..!)

د. محمد عطا مدنى

 

فى عام 1990م من القرن الماضى ، تمت إعارتى مع لفيف من إخوانى المعلمين الأفاضل من ذوى الخبرات الطويلة فى التربية وطرق التدريس ، والمنتمين لبخت الرضا وفروعه ، إلى اليمن لتدريب المعلمين ، وكنا جميعا أو على الأقل المجموعة الصغيرة التى كنت أنتمى إليها بصداقات عمل طويلة ، مهنيون حتى النخاع وغير منتمين حزبيا لأن الحزبية فى مجال التربية تؤثر بلا شك على نوعية عملية التدريس وأهدافها. وقضينا خمس سنوات فى التدريس والتدريب العملى على التدريس ، بمعهد معلمين بمدينة إب عاصمة اللواء الأخضر وسط اليمن ، وقد أنشىء المعهد بنظام مصرى قديم ومنقرض ، يدرس فيه الطالب خمس سنوات بعد إنهاء المرحلة الإعدادية ، كى يتخرج معلما بالمرحلة الإبتدائية.

ولقد نعمنا فى تلك السنوات ، باحترام مبالغ فيه من الإخوة اليمنيين ، الذين كانوا قد توجهوا إلى السودان منذ ثمانينات القرن الماضى ، طلبا لمعلمين سودانيين لتعليم أبنائهم وتدريب معلميهم على فنون التدريس ، لجديتهم وإخلاصهم ، وذلك لإصلاح التعليم الذى فسد منذ قيام ثورتهم فى الستينات ولم يحقق أغراضه.

وهنالك أتيحت لنا الفرصة لمراجعة أدبياتنا المشتركة مع اليمن ، وعرفنا أن التواجد السودانى فى جنوب اليمن قد بدأ منذ مطلع القرن العشرين ، أى منذ أكثر من مائة سنة. حين كانت عدن وحضرموت سلطنات تابعة للحكم البريطانى ، واطلعنا على وثائق تثبت أن المعلم السودانى كان يتم نقله من المدارس السودانية إلى مدارس عدن أو لحج أو الضالع أو حضرموت (نقلا داخليا) ، وكان مرتبه يأتيه من السودان.

وفى السفر الضخم (جسر الوجدان بين اليمن والسودان) للمؤلف اليمنى المبدع د. نزارعبده غانم (أستاذ بجامعة الأحفاد بالسودان الآن) والذى درس الطب فى جامعة الخرطوم ، وأتم دراساته العليا ببريطانيا ، اكتشفنا أن لفيفا من الأساتذة السودانيين قد أسسوا جامعة عدن ، وخدموا مناهج التعليم فى إدارات التعليم ، وعملوا فى مدارس اليمن الجنوبى كافة ، كما كان معظم قضاة السلطنات الجنوبية والمحامون من السودانيين وشارك كثير من الصحفيين السودانيين فى تأسيس الصحف فى جنوب اليمن وعملوا بها ، وكان من أشهرهم الدكتور الشاعر مبارك حسن الخليفة ، والمؤرخ والأديب الدكتور محمد سعيد القدال ، ولا زالت آثارهما ومناقب كثير من السودانيين يتغنى بها اليمنيون ، حتى ذلك الزمن الذى كنا فيه فى اليمن ، والتى امتدت لأكثر من مائة عام فى جنوب اليمن، ولثلاثين عاما فى شمال اليمن.

بعض الدول تدفع ملايين الدولارات لرجال الإعلام ، والقنوات الفضائية ، لتحسين صورتها أمام شعوبها ، وأمام الشعوب الأخرى ، أما فى السودان ، فقد قام بالدعاية لوطنه المواطن السودانى نفسه بالمجان ، بجدية أدائه ، وبحسن سلوكه وأخلاقياته سواء فى اليمن أو فى غيرها من دول العالم المختلفة. ولكن للأسف هذه السمعة الحسنة التى سطرها السودانيون فى اليمن لأكثر من مائة عام ، بعرقهم وجهدهم ومثابرتهم ، تتعرض الآن للضياع وللإنتكاسة ، بسبب مغامرات غير محسوبة ، من (فئة ضالة) يعميها حب المال ، فحولت السودانى من معلم ، وأستاذ جامعى ، وطبيب ، وقاض ، ومحام ، وصحفى، إلى جندى مرتزق يتم قتله فى صحراء وجبال اليمن ولا يجد من يدفنه ، فى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل..! .

هذه مقدمة مأساوية لابد منها ، لما أريد أن أحكيه من وقائع لازال معظم أصحابها على قيد الحياة…! .

بعد انتهاء إعارتنا لليمن عام 1995م ، كنا ستة من الأساتذة فى مدينة إب ، وكان لابد أن نسافر إلى العاصمة صنعاء لاستلام باقى حقوقنا ، وكذلك شهادات الخبرة الخاصة بنا كى نستعد للعودة إلى الوطن ، وكانت دفعتنا تتكون من 38 معلما من معلمى بخت الرضا وفروعه ، يحملون فى معظمهم مؤهل الماجستير فى التربية ، وتخصصات أخرى ، وخدمة لاتقل عن عشرين عاما فى تدريس وتدريب المعلمين ، وقد انتشروا فى كل محافظات اليمن لتدريب المعلمين ونشر العلم والثقافة فى تلك الأرجاء الواسعة.

وفى إدارة التعليم بصنعاء، تنادينا لاستلام شهادات الخبرة الخاصة بنا ، ولدهشتنا استلمها الجميع ماعدا نحن الأساتذة الستة، وقد كنت من بينهم ، فلم نجد شهادات خبراتنا مع الموظف المختص ، ولما استفسرناه ذكر لنا الموظف بلطف شديد ، أن هذه الشهادات مع المدير العام فاذهبوا إليه فى مكتبه ، وذهبنا إلى مكتب المدير العام فاستقبلنا بحفاوة شديدة ، وقال لنا شهادات خبراتكم معى فى مكتبى هذا ، ولقد اخترتكم أنتم الستة من واقع ملفاتكم وتقارير الموجهين ومديرى المعاهد عنكم ، دون أى تدخل من أحد ، وذلك بعد ان اطلعت على ملفات دفعتكم بالكامل ، وأريد أن أعلمكم أننا بصدد تأسيس معهد عال للمعلمين فى اليمن ، لمدة سنتين بعد الشهادة الثانوية ، على غرار معهد بخت الرضا المشهور عندكم فى السودان ، حيث لاحظنا طوال خمسة عشر عاما مضت ، أن المعلمين من خريجى هذا المعهد يتميزون بميزات تربوية وخبرات علمية وعملية وأخلاقية ، لا تتواجد مجتمعة فى أى معلم آخر فى العالم العربى من خريجى كليات التربية ، ولهذا أقول لكم لقد اخترتكم لهذه المهمة ، فاذا قبلتم بها سررنا كثيرا ، وأرجو أن تعتبروا هذه خدمة وطنية لبلدكم ، وفخرا لنا ، واذا لم تقبلوا ، فشهادات خبراتكم عندى .. تعالوا استلموها لتعودوا إلى بلدكم..! .

وكانت مفاجأة لم نتوقعها وطلبنا منه مهلة للفكير ، وخرجنا من مكتبه لمناقشة الأمر ، وتشاورنا معا هل نبقى أم نعود إلى السودان؟ فى ذلك الوقت كنا فى عام 1995م وتصلنا أخبار تدهور الحال فى السودان ، فى ظل ماسمى بالإنقاذ وقتذاك. ولكن طغت على أفكارنا نظره أخرى أكثرعمقا وأهمية للموضوع ، وهو أن اختيارنا لهذه المهمة دون غيرنا من الأخوة العرب وباليمن يوجد كل ألوان الطيف من الأخوة المعلمين من الدول العربية المختلفة ، جعلنا نشعر أن ما طلب منا يعتبر مهمة وطنية لبلدنا السودان فى المقام الأول ، ويجب أن ننجزها خدمة للوطن ، ولسمعة معهدنا العريق بخت الرضا ، واستقر الرأى على أن نبقى ونتعاقد مع الأخوة اليمنيين ، لتأسيس المعهد العالى المزمع انشاؤه. وعدنا للسيد المدير ووافقنا على عرضه لنا بتأسيس المعهد العالى لتدريب المعلمين. وقد سر المدير كثيرا بموافقتنا ورحب بنا قائلا : ستعتمد مقررات المعهد على مناهج بخت الرضا العلمية والعملية وعلى خبراتكم الشخصية ، وستكونوا أنتم الأساس فى تأسيس المعهد وسيساعدكم لفيف من خيرة المعلمين من دول عربية مختلفة ، وقد لجأنا لذلك حتى لاتنتقدنا البعثات التعليمية العربية الموجودة فى اليمن ، وهى أصلا تتهمنا بالتحيز للسودانيين. وقال لنا فى نهاية المقابلة : أشكركم للموافقة على قبول المهمة، وعليكم الاتصال بزملائكم فى السودان للحصول على مناهج ومقررات بخت الرضا ليتم تأسيس المعهد على مسلماته التربوية والعملية ، والآن ، عودوا الى مدينة إب حيث أسركم ، وتعالوا بعد شهرين فى بداية سبتمبر للتعاقد مع المعهد العالى لإعداد المعلمين والذى سيكون يإذن الله تعالى فى مدينة صنعاء.

وكنا قد جمعنا قليلا من المال كى نعود به إلى السودان ، وسوف يتعين علينا صرفه فى إيجار الشقق ومعيشة الأسرة طوال العطلة الصيفية ، حيث سنكون بلا رواتب ، لأننا استلمنا ماتبقى لنا من مخصصات مالية وكذلك رواتب العطلة. وعدنا وبشرنا عائلاتنا بالحاصل ، وقضينا شهور العطلة ، وانتهى أو قارب للإنتهاء ما معنا من مال ، وسافرنا إلى صنعاء للتعاقد كما وعدنا المدير العام لمعاهد المعلمين.

وعند وصولنا إلى إدارة التعليم فوجئنا بمجموعة من الأساتذة العراقيين والفلسطينيين يحملون عقود المعهد العالى ويستكملون إجراءات تعاقدهم ، وسألنا الموظف المختص عن عقودنا فأطال النظر إلى وجوهنا متفرسا بنظرات (غير مريحة) ثم قال بجفاف : لا أعرف قابلوا المدير العام..! .

وتعجبنا قليلا من معاملة الموظف لنا بجفاف غير معهود ، ولم يكن المدير العام موجودا .. وبحثنا عن فندق رخيص لنبيت فيه حتى اليوم التالى ، حيث قضينا الليلة فى قلق ونحن نضرب أخماس فى أسداس .. نفكر فيما يمكن أن يحدث لنا لو تراجع المدير العام عن وعده ، وقد صرفنا ما معنا من مال ، وأصبحنا لانملك مايكفينا للعودة إلى السودان..! .

جئنا فى اليوم التالى وطلبنا مقابلة المدير العام ، فقيل لنا أنه مشغول بمقابلات ومناقشات مهمة مع بعض رجال التعليم باليمن ، ولن يستطيع مقابلتكم اليوم..! وقد لا حظنا وجود عدد آخر من المعلمين من دول عربية مختلفة يحملون عقود المعهد العالى ويواصلون إجراءات تعيينهم..! .

ولفت الحيرة والاضطراب رؤوسنا ، كيف قيل لنا أننا سنكون المؤسسين للمعهد؟ وأن لفيفا من المعلمين مختارين من دول عربية أخرى سيكونون مجرد مساعدين لنا .. وها نحن بلا عقود عمل ، وغيرنا يحملون عقود عملهم بالمعهد العالى للمعلمين ، ويهنىء بعضهم بعضا..! . ماذا سنقول لأسرنا الذين ينتظرون عودتنا بفارغ الصبر؟ وكيف نعود إلى السودان وليس فى أيدينا مال يكفينا للعودة ؟ .

جلسنا على هذا الحال ثلاثة أيام أخرى فى ذلك الفندق المتواضع ، نهبا لأفكار سوداوية ، ولم نستطع خلالها مقابلة المدير العام ، حتى أننا كنا نجلس فى صمت تام .. لا يحدث بعضنا بعضا .. وكل منا يفكر فى كيفية المخارجة من هذه المشكلة المعقدة..! .

وفى اليوم الرابع فوجئنا بعقودنا عند الموظف ، وكانت آخر العقود التى وقعت من المدير العام .. وفى غمرة فرحتنا، نسينا آلام الأيام الأربعة الماضية، وحالة العذاب والقلق التى كنا فيها ، ولم نسأل عن سبب التأخير .. وأكملنا إجراءات تعاقدنا ، وعدنا إلى مدينة إب وأخذنا أسرنا وتوجهنا للسكن فى صنعاء بالقرب من المبنى الذى خُصص للمعهد العالى. وجاءنا عميد المعهد وهو رجل فاضل وطلب منا تكوين لجان للمقررات ، وانهمكنا فى أعمالنا لإعداد المقررات ، مواصلين الليل بالنهار ، عملا دؤوبا مستمرا ، وانتهينا من إعداد المناهج خلال أشهر قليلة ، ثم استقبلنا الدفعة الأولى من الطلاب المعلمين وبدأت الدراسة بنجاح كبير.

وكانت رئاسة البعثات السودانية سواء فى التربية أو المعاهد العلمية التى كنا معارين اليها ، يسيطر عليها (الإسلامويون) ، ويبذلون فى سبيل الوصول لتلك المناصب كل غال ورخيص وبعضهم درس الدراسة الجامعية بجامعة صنعاء ، ولم يعمل مدرسا فى السودان ليوم واحد ، وكان يسندهم حزب كبير تصرف عليه حكومة (ماسمى بالانقاذ) من مال الشعب ، وقد استأجرت حكومتهم لرئيس الحزب وهو مدرس قديم بالمرحلة الإبتدائية بالسودان ، فيلا من طابقين حتى تتسع لأسرتيه ، الأسرة السودانية فى الطابق الأول ، والزوجة اليمنية فى الطابق الثانى (لزوم الصلات والعمل السياسى مع اليمنيين). وكانت الدولة السودانية تقدم له كل التسهيلات والدعم المالى لمساعدته على الإلتقاء بالأحزاب اليمنية ، وتطلق على مهمته (الدبلوماسية الشعبية) ، رغم أن لنا سفارة باليمن. ولم تكن بيننا وبين سدنة النظام البائد فى اليمن علاقات من أى شكل ، وذلك لمحاولاتهم الإضرار بأى سودانى فى اليمن يعارض تنظيمهم. ولكننا جميعا كنا نحترم شخصا واحدا فقط منهم بسبب سلوكه الإنسانى ، وهو الأخ الأستاذ عثمان الإمام ، والذى كان يشغل وظيفة مديرالعلاقات العامة فى هيئة المعاهد العلمية ، حيث كنا نجده فى مقدمتنا حاملا (عمود الغداء) لأى أستاذ سودانى يرقد مريضا فى المستشفى ، مهما كانت توجهاته الحزبية ، كما كان يصرعلى مصاحبة جثمان أى أستاذ سودانى يتوفى فى اليمن ، حاملا معه مخصصاته المالية وأغراضه لأسرته فى السودان.

وقد تماهى إلى أسماعنا أنباء خلاف حاد نشأ بينه وبين رئاسة البعثة السودانية وقادة حزبه فى اليمن. وقد أصيب على أثر ذلك الخلاف بصدمة عصبية حادة تسببت له فى شلل نصفى وعدم القدرة على الكلام. وأصريت على زيارته فى منزله مع أحد الأصدقاء المقربين منه ، مع أننى كنت أقاطع أنصار النظام البائد شخصيا واجتماعيا مقاطعة تامة ، بسبب عمليات إضرارمارسوها ضد سودانيين فى اليمن لا ينتمون إلى تنظيمهم ، وتسببوا فى قطع عيشهم.

ولما وصلنا لمنزل الأستاذ ، وجدنا أهله وأولاده يحاولون حمله وإدخاله إلى سيارته وعرفنا أن لديه موعدا لمتابعة الطبيب ، وساعدناهم أنا وصديقى على حمل الأستاذ عثمان إلى سيارته وذهبنا معهم إلى الطبيب ، وعدنا به إلى المنزل ، وكان فاقدا للنطق تماما ، ولكنه كان يرمقنا بنظرات تعبر عن امتنانه لزيارتنا له ، وعيناه مغرورقتان بالدموع ، وفهمنا معناها فقد يكون ألم المرض أوعدم مقدرته على شكرنا ، فقلت له لا عليك .. ستشفى بإذن الله سبحانه وتعالى. وعرفت من صديقى أنه متأثر جدا من جماعة التنظيم ، لأن أحدا منهم لم يزره فى حالة مرضه ، وليس هذا فحسب ولكنهم تسببوا فى اصدار قرار بفصله من وظيفته كمدير للعلاقات العامة بالهيئة ، واستغربت لهذا التصرف وهو (أخ) لهم ، ولكن اعتبرت الأمر لايعنينى ، لأن من عادتى ألا أتدخل فى شؤون الغير، ولدى وقتى استمتع به فى الرسم وكتابة بعض المقالات والقصص القصيرة.

وتريد إرادة المولى جل وعلا أن يتماثل الأستاذ عثمان للشفاء وتزول الصدمة العصبية عنه ، ويلغى قرار فصله بواسطة بعض الأجاويد الطيبين ، ويعود إلى عمله فى إدارة المعاهد.

ولما أوشكنا على تخريج الدفعة الأولى من المعلمين بعد عامين من العمل المضنى المتواصل ، أصر عميد المعهد الأستاذ الفاضل أحمد علوان مفلح على إقامة حفل تخريج للطلاب ، وفى نفس الوقت تكريم للأساتذة الستة الذين أسسوا المعهد العالى وبدأ حفل التكريم بكلمة للأستاذ العميد تحدث فيها عن ظروف نشأة المعهد وفكرته ، وقال فيها أنه يرجع الفضل فى ذلك للفرسان الستة الذين وفدوا إلينا من السودان لتأسيس المعهد ، وفجأة قام أحد الأساتذة السودانيين المنتمين (للجماعة) وصاح بأعلى صوته مقاطعا العميد قائلا له : يا أستاذ .. فى كل مناسبة تذكر الأساتذة الستة الذين أسسوا المعهد .. هل أسسوا لكم بنك ؟ .

هذه المفاجأة صدمت الكثيرين من المعلمين المنتمين لدول عربية مختلفة وبدأوا يتهامسون … دهشة واستغرابا .. العميد يشكر الأساتذة السودانيين .. والمعترض سودانى..؟ أكثرهم لم يفهم الكيمياء السودانية المعقدة التركيب حتى اليوم..! أما نحن فقد عقدت الدهشة ألسنتنا ، وألجمت تفكيرنا ، ولم نكن نصدق أن يسىء هذا المخلوق إلى وطنه وأبناء وطنه بهذه الطريقة المخزية..! .

وسأله العميد بكل برود : يا أستاذ كم سنة تعمل بمهنة التدريس؟ قال له : خمسة عشر عاما .. قال له العميد فى لهجة تبكيت وسخرية: خمسة عشر عاما فى التدريس ولا تعرف أن تأسيس معهد لبناء وتدريب معلمى الأمة تربويا وعلميا ، أهم من تأسيس بنك؟ ونهره قائلا أجلس يا أستاذ..! .

 

وتم تكريمنا رغما عن أنفه، وعلمنا بعد ذلك أن وجوده كان مبرمجا من حزبه الفاسد ، حتى يسىء إلينا أمام حشد من المعلمين من مختلف الدول العربية ، لايقل عن 500 معلم وموجه تربوى. ولكن كما يقولون ، انقلب السحرعلى الساحر .. وجلس مخزيا عليه ، ونظرات السخرية تعتوره من كل الحاضرين ، ولم يجد بدا إلا الانسحاب من الحفل..! .

 

وصادف أن كنت مسافرا إلى السودان فى نهاية العام ، وكان لابد أن أمر على مكتب الأستاذ عثمان الإمام بعد أن عاد إلى منصبه ، بتوصية المدير العام ، كمدير للعلاقات العامة ، وذلك لاستلام تذاكر السفر ، وكانت من ضمن اختصاصاته ، وعندما دلفت إلى مكتبه قام مهللا لتحيتى وعانقنى وأجلسنى بجواره بعد أن أغلق باب مكتبه ، وكانت تدور فى رأسى تساؤلات عن خلافه الشديد مع الجماعة ، مما تسبب فى مرضه ، وسألته لماذا اختلفت مع جماعتكم هذا الخلاف الحاد الذى أدى إلى مرضك؟ وفاجأنى بقوله : هذه الخلافات كانت بسببكم أنتم ، الأساتذة الستة المرشحون لتأسيس المعهد العالى للمعلمين..! قلت له مندهشا : وما دخلنا نحن بالموضوع ؟ قال: هل تذكر عملية تأخير عقودكم ؟ قلت له نعم. قال السبب فى ذلك أن (جماعتنا) أبلغوا الأخوة اليمنيين (بشهادات سيئة) في حقكم .. وقد دافعت عنكم دفاعا مستميتا ، وقلت لهم هؤلاء من خيرة أساتذتنا فى السودان ، تأهيلا وخبرة تربوية وأخلاقا عالية ، وأننى أعرف بعضهم معرفة شخصية ، وهم من جيل متقارب فى الرؤى ومنفتحين ومنسجمين معا ، وغير متحزبين سياسيا ، فقط مهنيون وتربويون من الطراز الأول. وسألته ماذا قالوا عنا للمدير العام؟ سكت هنيهة ، ثم نظر إلى نظرة مترددة ، كأنه خشى من وقع عباراته على سمعى. قال : قالوا له كيف تأمنوا على أولادكم أن يربونهم أشخاص (منحرفون) مثل هؤلاء؟ وبعد مداولات مضنية معهم ، ومع بعض رجالات التربية اليمنيين الذين كانوا يصدقون ما قاله حزبنا عنكم ، ووقوفى ضد حزبنا بشدة ، وضد إساءة سمعتكم بلا سبب منطقى، اتخذ المدير قراره بالتعاقد معكم..! وكان رد حزبنا تجاهى ، أن أوعز بعضهم لليمنيين بإصدار قرار بعزلى من منصبى كمدير للعلاقات العامة..! وكان الصدام بيننا شديدا ، لدرجة إصابتى بالصدمة العصبية ، والشلل النصفى كما رأيتمونى..! .

لقد عرفنا بعد عامين كاملين سبب تأخرنا عن استلام عقودنا .. وسبب تلك الأيام السوداء التى عشناها على أعصابنا ، ونحن حائرون ، لانعرف لأنفسنا شاطئا نرسو عليه…! والغريب فى الأمر أن لا أحد منا أساء إلى فرد منهم أو إلى تنظيمهم ، فقد كنا فى حالنا ومشغولون بمهماتنا التدريسية فقط. وسألت الأستاذ عثمان : بالله عليك أستاذ عثمان ماذا قالوا عنا للمدير بالتفصيل؟ ولم يكن يريد الإجابة ولكن لما أصررت عليه قال : قالوا عنكم أنكم مجموعة (منحرفة) من الشيوعيين والبعثيين..! . قلت له وماذا كان رد المدير؟ قال : قال لهم (بعد نقاشات مستفيضة مع رئاسة حزبنا الذى كان يرفض رفضا باتا أن تتولوا أنتم هذه المهمة) : إنتم ماعندكم كوادر مثقفة ، وذات خبرات طويلة فى التربية وطرق التدريس مثل هؤلاء ، ومعظمكم علمناكم نحن هنا فى اليمن بجامعة صنعاء ، وقبلناكم كمدرسين فى الابتدائى والإعدادى ، وقد تعاوننا معكم حزبيا وتنظيميا فقط .. جايين كمان دايرين تدرسوا وتدربوا معلمينا بلا خبرة وبلا علم ، لو عندكم بحزبكم مثل هذه الكفاءات جيبوها الآن. فأسقط فى أيديهم .. وانتصر الرأى العادل والصادق والمنطقى لى وللمدير العام ، الذى قدر كثيرا موقفى المدافع عنكم .. وتم إصدار قراره فى النهاية بالتعاقد معكم..! (انتهى كلام الأستاذ عثمان).

 

آخر الكلام :

1/ لقد قالوا عنا كذبا وبهتانا ، أننا مجموعة (منحرفة) من الشيوعيين والبعثيين..!ا وهى (تهم جاهزة) لكل معارضيهم حتى الآن ، أى أننا لسنا شيوعيين وبعثيين فقط ، ولكننا مجموعة (منحرفة) منهم..! واعتبروا أن هذه (مسبة) يلصقوها بنا ، وهم يعلمون تماما أن هؤلاء الشيوعيين والبعثيين أشرف منهم جميعا بمعظم فئات حزبهم الضال ، (إلا من رحم ربه) ونحن لا ندعى شرف انتمائنا إلى هذه الإتجاهات السياسية، فكلنا ، كنا وما زلنا ، مستقلون ، ومهنيون فى المقام الأول ، وقد شغلنا الهم التربوى فى السودان عن الإهتمام بالسياسة والتحزب. وفى مجتمع بسيط ومتدين مثل المجتمع اليمنى ، تعتبر هذه التنويهات السياسية سببا رئيسيا يمكن أن (ينسف) فردا أو مجموعة .. بالفصل من العمل .. والتسفير فورا….! .

 

2/ استطعنا بحمد الله وتوفيقه ، من عام 1995م وحتى عام 1999م تأدية مهمة وطنية لبلدنا بتأسيس خمس معاهد معلمين باليمن ، على غرار معهد التربية بخت الرضا ، فبالإضافة للمعهد الرئيس بصنعاء ، الذى كنا نديره ، أسسنا معاهد مشابهة وبنفس المناهج ، فى مدن الحديدة ، وأرحب ، وتعز ، والضالع ، وأشرفنا عليها مناهجا وتدريبا ، واختيارا للمدرسين المؤهلين للعمل بها ، وسلمناها جاهزة للإخوة اليمنيين.

ولأن القائمين علي هذه المهمة لم يكونوا منتمين لما سمى وقتئذ (الإنقاذ) ، فقد (قبرت) هذه المهمة الوطنية إلى الأبد ، ولم يسمع عنها أحد ، ولا حتى خبرعابر فى جريدة…! .

وأبطال هذه الملحمة التربوية هم د.عبدالعاطى ميرغنى (أستاذ بجامعة صنعاء الآن) ، د.عبدالمحمود إدريس أستاذ جامعى بالمملكة العربية السعودية المرحوم د. محمد عبد الله على ، أستاذ بكلية التربية صعدة سابقا ، الأستاذ سليمان ابراهيم سعيد بالتعليم الخاص باليمن، د. مصطفى الصاوى صحفى وروائى وناقد أدبى بالخرطوم ، وكاتب هذا السطور. والأجر والثواب من عند الله سبحانه وتعالى وحده.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *